الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا} (13)

وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاجي في أماليه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وحناناً } قال : لا أدري ما هو ، إلا أني أظنه تعطف الله على خلقه بالرحمة .

وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وحناناً } فلم يجر فيها شيئاً .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وحناناً من لدنا } قال : رحمة من عندنا .

وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله : { وحناناً من لدنا } قال : رحمة من عندنا .

قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم . أما سمعت طرفة بن العبد البكري وهو يقول :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض لشر أهون من بعض

وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد { وحناناً من لدنا } قال : تعطفاً من ربه عليه .

وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن { وحناناً من لدنا } قال : الرحمة .

وأخرج عبد بن حميد ، عن الربيع { وحناناً من لدنا } قال : { رحمة من عندنا } لا يملك عطاءها أحد غيرنا .

وأخرج الحكيم الترمذي ، عن سعيد الجهني في قوله : { وحناناً من لدنا } قال : الحنان المحبب .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن قتادة { وحناناً من لدنا } قال : رحمة من عندنا { وزكاة } قال صدقة .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وزكاة } قال : بركة . وفي قوله : { وكان تقياً } قال : طهر فلم يعمل بذنب .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن قوله : { وكان تقياً } قال : لم يعصه ولم يهم بها .

وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { ولم يكن جباراً عصياً } قال : كان سعيد بن المسيب يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب ، إلا يحيى بن زكريا » قال قتادة : وقال الحسن : قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أذنب يحيى بن زكريا قط ولا هم بامرأة » .

وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر ، عن ابن عباس في قوله : { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } قال : ذكره الله برحمته منه حيث دعاه { إذ نادى ربه نداء خفياً } يعني دعا ربه { دعاء خفياً } في الليل ، لا يسمع أحداً ، أو يسمع أذنيه . فقال : { رب إني وهن العظم مني } يعني ضعف العظم مني { واشتعل الرأس شيباً } يعني غلب البياض السواد { ولم أكن بدعائك رب شقياً } أي لم أدعك قط فخيبتني فيما مضى ، فتخيبني فيما بقي ، فكما لم أشق بدعائي فيما مضى ، فكذلك لا أشقى فيما بقي ، عوّدتني الإجابة من نفسك . { وإني خفت الموالي من ورائي } فلم يبق لي وارث ، وخفت العصبة أن ترثني { فهب لي من لدنك ولياً } يعني من عندك ولداً { يرثني } يعني يرث محرابي ، وعصاي وبرنس العربان ، وقلمي الذي أكتب به الوحي { ويرث من آل يعقوب } النبوّة { واجعله رب رضياً } يعني مرضياً عندك زاكياً بالعمل ، فاستجاب الله له ، فكان قد دخل في السن هو وامرأته . فبينا هو قائم يصلي في المحراب ، حيث يذبح القربان ، إذا هو برجل عليه البياض حياله ، وهو جبريل فقال : { يا زكريا إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى } هو اسم من أسماء الله ، اشتق من حي سماه الله فوق عرشه { لم نجعل له من قبل سميا } لم يجعل لزكريا من قبل يحيى ولد له { هل تعلم له سميا } يعني هل تعلم له ولداً ، ولم يكن لزكريا قبله ولد ، ولم يكن قبل يحيى أحد يسمى يحيى قال : وكان اسمه حياً ، فلما وهب الله لسارة إسحق ، فكان اسمها يسارة ، ويسارة من النساء التي لا تلد ، وسارة من النساء : الطالقة الرحم التي تلد فسماها الله سارة وحول الياء من سارة إلى حي فسماه يحيى ، فقال : { رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً } خاف أنها لا تلد .

قال : { كذلك قال ربك } { يا زكريا هو عليّ هين وقد خلقتك من قبل } أن أهب لك يحيى { ولم تك شيئاً } وكذلك أقدر على أن أخلق من الكبير والعاقر . وذلك أن إبليس أتاه فقال : يا زكريا ، دعاؤك كان خفياً فأجبت بصوت رفيع ، وبشرت بصوت عال ، ذلك صوت من الشيطان ، ليس من جبريل ، ولا من ربك . { قال رب اجعل لي آية } حتى أعرف أن هذه البشرى منك . { قال آيتك أَلا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً } يعني صحيحاً من غير خرس . فحاضت زوجته ، فلما طهرت طاف عليها فاستحملت ، فأصبح لا يتكلم وكان إذا أراد التسبيح والصلاة أطلق الله لسانه فإذا أراد أن يكلم الناس ؛ اعتقل لسانه فلا يستطيع أن يتكلم ، وكانت عقوبة له لأنه بشر بالولد فقال : { أَنى يكون لي غلام } فخاف أن يكون الصوت من غير الله { فخرج على قومه من المحراب } يعني من مصلاه الذي كان يصلي فيه . فأوحى إليهم بكتاب كتبه بيده { أن سبحوا بكرة وعشياً } يعني صلوا صلاة الغداة والعصر ، فولد له يحيى على ما بشره الله نبياً تقياً صالحاً { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } يعني بجد وطاعة واجتهاد وشكر وبالعمل بما فيه { وآتيناه الحكم } يعني الفهم { صبياً } صغيراً وذلك أنه مر على صبية أتراب له ، يلعبون على شاطئ نهر بطين وبماء ، فقالوا : يا يحيى تعالَ حتى نلعب ، فقال : سبحان الله ! أو للعب خلقنا ؟ ! { وحناناً } يعني ورحمة { منا } وعطفاً { وزكاة } يعني وصدقة على زكريا { وكان تقياً } يعني مطهراً مطيعاً لله { وبراً بوالديه } كان لا يعصيهما { ولم يكن جباراً } يعني قتال النفس التي حرم الله قتلها { عصياً } يعني عاصياً لربه . { وسلام عليه } يعني حين سلم الله عليه { يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً } .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال : قال مالك : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة ، وكان حملهما جميعاً معاً ، فبلغني أن أم يحيى ، قالت لمريم : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك . قال مالك : أرى ذلك لتفضيل الله عيسى ، لأن الله جعله يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ولم يكن ليحيى عيشة إلا عشب الأرض ، وإن كان ليبكي من خشية الله ، حتى لو كان على خده القار لأذابه ، ولقد كان الدمع اتخذ في وجهه مجرى .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن خزيمة والدارقطني في الأفراد وأبو نصر السجزي في الإبانة والطبراني ، عن ابن عباس قال : «كنا في حلقة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نتذاكر فضائل الأنبياء ، فذكرنا نوحاً وطول عبادته ، وذكرنا إبراهيم وموسى وعيسى ورسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «ما تذاكرون بينكم » فذكرنا له ، فقال : أما إنه لا ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا أما سمعتم الله كيف وصفه في القرآن { يا يحيى خذ الكتاب بقوّة } إلى قوله : { وكان تقياً } لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها » .

وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب : «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كلمه الله تكليماً ، وقال قائل : عيسى روح الله وكلمته ، وقال قائل : إبراهيم خليل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أين الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب يحيى بن زكريا » ؟ .

وأخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ ، أو هم بخطيئة ، إلا يحيى بن زكريا ، لم يهم بخطيئة ولم يعملها » .

وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم والحاكم عن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا » .

وأخرج أحمد في الزهد وابن عساكر ، عن يحيى بن جعدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يحيى بن زكريا ، ما هم بخطيئة ولا حاكت في صدره امرأة » .

وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن حبيب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما بعلت النساء عن ولد ينبغي له أن يقول : أنا أفضل من يحيى بن زكريا لم يحك في صدره خطيئة ولم يهم بها » .

وأخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طلحة رفعه قال : ما ارتكض في النساء من جنين ينبغي له أن يقول : أنا أفضل من يحيى بن زكريا ، لأنه لم يحك في صدره خطيئة ولم يهم بها » .

وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال يحيى لعيسى : استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى : بل أنت خير مني ، سلم الله عليك ، وسلمت أنا على نفسي ، فعرف والله فضلها .

وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم والضياء ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحسن والحسين سيداً شباب أهل الجنة - إلا ابني الخالة - عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا » .

وأخرج الحاكم من طريق سمرة ، عن كعب قال : كان يحيى لا يقرب النساء ولا يشتهيهن ، وكان شاباً حسن الوجه ، لين الجناح ، قليل الشعر ، قصير الأصابع ، طويل الأنف ، أقرن الحاجبين ، رقيق الصوت ، كثير العبادة ، قوياً في الطاعة .

وأخرج البيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر ، عن أبي بن كعب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن من هوان الدنيا على الله ، أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة » .

وأخرج الحاكم عن عبد الله بن الزبير قال : من أنكر البلاء ، فإني لا أنكره ، لقد ذكر لي أنما قتل يحيى بن زكريا في زانية .

وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طريقه : أنا أبو يعقوب الكوفي ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى زكريا في السماء فسلم عليه فقال له : «يا أبا يحيى ، خبرني عن قتلك كيف كان ؟ ولم قتلك بنو إسرائيل ؟ قال : يا محمد ، إن يحيى كان خير أهل زمانه ، وكان أجملهم وأصبحهم وجهاً ، وكان كما قال الله : { سيداً وحصوراً } وكان لا يحتاج إلى النساء ، فهويته امرأة ملك بني إسرائيل وكانت بغية فأرسلت إليه ، وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها ، وأجمعت على قتل يحيى ، وَلَهُم عيد يجتمعون في كل عام ، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب ، فخرج الملك للعيد فقامت امرأته فشيعته ، وكان بها معجباً ، ولم تكن تسأله فيما مضى ، فلما أن شيعته قال الملك : سليني فما تسأليني شيئاً إلا أعطيتك ، قالت : أريد دم يحيى بن زكريا . قال لها : سليني غيره . قالت : هو ذاك . قال : هو لك ، فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي ، وأنا إلى جانبه أصلي ، فذبح في طست ، وحمل رأسه ودمه إليها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فما بلغ من صبرك ؟ قال : ما انفتلت من صلاتي ، فلما حمل رأسه إليها ووضع بين يديها ، - فلما أمسوا - خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه ، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل : لقد غضب إله زكريا لزكريا ، فتعالوا حتى نغضب لملكنا ، فنقتل زكريا ، فخرجوا في طلبي ليقتلوني ، فجاءني النذير ، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي : فلما أن تخوفت أن لا أعجزهم ، عرضت لي شجرة فنادتني فقالت : إلي إلي ، وانصدعت لي ، فدخلت فيها ، وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي ، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجاً من الشجرة ، وجاء بنو إسرائيل ، فقال إبليس : أما رأيتموه دخل هذه الشجرة ! هذا طرف ردائه دخل به الشجرة ، فقالوا : نحرق هذه الشجرة ، فقال إبليس : شقوه بالمنشار شقاً .

قال : فشققت مع الشجرة بالمنشار . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا زكريا ، هل وجدت له مساً أو وَجعاً ؟ قال : لا ، إنما وجدت تلك الشجرة جعل الله روحي فيها » .

وأخرج ابن عساكر ، عن وهب بن منبه أن زكريا هرب ودخل جوف شجرة ، فوضع على الشجرة المنشار وقطع بنصفين ، فلما وقع المنشار على ظهره أنَّ ، فأوحى الله « يا زكريا إما أن تكف عن أنينك ، أو أقلب الأرض ومن عليها » فسكت حتى قطع نصفين .

وأخرج أحمد في الزهد وابن عساكر عن يزيد بن ميسرة قال : كان طعام يحيى بن زكريا الجراد وقلوب الشجر ، وكان يقول : من أنعم منك يا يحيى ؟ طعامك الجراد وقلوب الشجر .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن عساكر ، عن أبي إدريس الخولاني وابن المبارك وأحمد في الزهد وأبو نعيم ، عن مجاهد قالا : كان طعم يحيى بن زكريا العشب ، وإن كان ليبكي من خشية الله ، حتى لو كان القار على عينه لأحرقه ! ولقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه .

وأخرج ابن عساكر ، عن يونس بن ميسرة قال : مر يحيى بن زكريا على دينار فقال : قبح هذا الوجه يا دينار ، يا عبد العبيد ، ومعبد الأحرار .

وأخرج البيهقي في سننه ، عن مجاهد قال : سأل يحيى بن زكريا ربه ؟ قال : رب ، اجعلني أسلم على ألسنة الناس ، ولا يقولون فيّ إلا خيراً . فأوحى الله إليه : «يا يحيى لم أجعل هذا لي ، فكيف أجعله لك ؟ » .

وأخرج أحمد والبيهقي في الشعب وابن عساكر ، عن ثابت البناني قال : بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال له يحيى : ما هذه ؟ ! قال : هذه الشهوات التي أصيب بها بنو آدم . قال له يحيى : هل لي فيها شيء ؟ قال : لا . قال : فهل تصيب مني شيئاً ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلناك عن الصلاة والذكر . قال : هل غيره ؟ قال : لا . قال : لا جرم ، لا أشبع أبداً .

وأخرج ابن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن علي بن الحسين ، عن الحسين بن علي قال : كان ملك مات وترك امرأته وابنته ، فورث ملكه أخوه ، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه ، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك ، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء ، فقال له : لا تتزوّجها فإنها بغي ، فبلغ المرأة ذلك ، فقالت : ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه . فعمدت إلى ابنتها فصيغتها ، ثم قالت اذهبي إلى عمك عند الملأ ، فإنه إذا رآك سيدعوك ، ويجلسك في حجره ويقول : سليني ما شئت ، فإنك لن تسأليني شيئاً إلا أعطيتك ، فإذا قال لك قولي : فقولي لا أسألك شيئاً إلا رأس يحيى ، وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ، ثم لم يمض له ، نزع من ملكه .

ففعلت ذلك ، فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى ، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه ، فاختار ملكه ، فقتله ، فساخت بأمها الأرض . قال ابن جدعان : فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب ، فقال : أما أخبرك كيف كان قتل زكريا ؟ قلت : لا . قال : إن زكريا حيث قتل ابنه ، انطلق هارباً منهم ، واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق ، فدعته إليها فانطوت عليه ، وبقيت من ثوبه هدبة تلعبها الريح ، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره عندها ، فنظروا تلك الهدبة ، فدعوا المنشار ، فقطعوا الشجرة فقطعوه فيها .

وأخرج ابن عساكر عن ابن عمرو قال : التي قتلت يحيى بن زكريا امرأة ورثت الملك عن آبائها ، فأتيت برأس يحيى وهي على سريرها ، فقال للأرض خذيها فأخذتها وسريرها فذهب بها .

وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر ، عن عبد الله بن الزبير : أن ملكاً أراد أن يتزوج ابنة أخيه ، فاستفتى يحيى بن زكريا ؟ فقال : لا تحل لك . فسألت قتله ؟ فبعث إليه - وهو في محرابه يصلي - فذبحوه ، ثم حزوا رأسه وأتوا به الملك ، فجعل الرأس يقول : لا يحل لك ما تريد .

وأخرج ابن عساكر عن ابن شوذب قال : قال يحيى بن زكريا للذي جاء يحز رأسه : أما تعلم أني نبي ؟ قال : بلى ، ولكني مأمور .

وأخرج الحاكم وابن عساكر ، عن ابن عباس قال : أوحى الله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً وإني قاتل بابن ابنتك سبيعن ألفا وسبعين ألفاً .

وأخرج ابن عساكر ، عن شمر بن عطية قال : قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبياً منهم يحيى بن زكريا .

وأخرج ابن عساكر عن قرة قال : ما بكت السماء على أحد ، إلا على يحيى بن زكريا ، والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها .

وأخرج أحمد في الزهد ، عن خالد بن ثابت الربعي قال : لما قتل فجرة بني إسرائيل - يحيى بن زكريا ، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم : أن قل لبني إسرائيل «إلى متى تجترئون على أن تعصوا أمري ، وتقتلوا رسلي ؟ وحتى متى أضمكم في كنفي ؟ كما تضم الدجاجة أولادها في كنفها ، فتجترئون علي ! اتقوا ، لا أؤاخذكم بكل دم كان بين ابني آدم ويحيى بن زكريا ، واتقوا ، أن أصرف عنكم وجهي ، فإني إن صرفت عنكم وجهي لا أقبل عليكم إلى يوم القيامة » .

وأخرج أحمد عن سعيد بن جبير قال : لما قتل يحيى عليه السلام قال : بعض أصحابه لصاحب له : ابعث إلي بقميص نبي الله يحيى أشمه ، فبعث به إليه ، فإذا سداه ولحمته ليف ! .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، عن يونس بن عبيد قال : بلغنا أنه كان رجل يجور على مملكته ويعدي عليهم ، فائتمروا بقتله ، فقالوا : نبي الله زكريا بين أظهرنا ، فلو أتيناه فأتوا منزله ، فإذا فتاة جميلة رائعة قد أشرق لها البيت حسناً ، فقالوا : من أنتِ ؟ قالت : امرأة زكريا . فقالوا فيما بينهم : كنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا ، فإذا هو عنده امرأة من أجمل النساء ، ثم إنهم رأوه في عمل عند قوم ويعمل لهم ، حتى إذا حضر غداؤه قرب رغيفين ، فأكل ولم يدعهم ، ثم قام فعمل بقية عمله ، ثم علق خفيه على عنقه والمسحاة والكساء ، قال : ما حاجتكم ؟ قالوا : قد جئنا لأمر ، ولقد كاد يغلبنا ما رأينا ، على ما جئنا له . قال : فهاتوا ؟ قالوا : أتينا منزلك ، فإذا امرأة جميلة رائعة ! وكنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا ، فقال : إني إنما تزوجت امرأة جميلة رائعة ، لأكف بها بصري ، وأحفظ بها فرجي ، فخرج نبي الله مما قالوا . قالوا : ورأيناك قدمت رغيفين ، فأكلت ولم تدعنا ؟ ! قال : إن القوم استأجروني على عمل ، فخشيت أن أضعف عن عملهم ، ولو أكلتم معي لم يكفني ولم يكفكم ، فخرج نبي الله مما قالوا . قالوا : ورأيناك وضعت خفيك على عنقك ، والمسحاة والكساء . فقال : إن هذه الأرض جديدة ، وكرهت أن أنقل تراب هذه في هذه ، فخرج نبي الله مما قالوا . قالوا : إن هذا الملك يجور علينا ويظلمنا ، وقد ائتمرنا لقتاله . قال : أي قوم ، لا تفعلوا ، فإن إزالة جبل من أصله أهون من إزالة ملك مؤجل . والله أعلم .