اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا} (13)

قوله { وحَنَاناً } : يجوز أن يكون مفعولاً به ، نسقاً على " الحُكْمَ " أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً . والحنانُ : الرحمةُ واللّينُ ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب : [ المتقارب ]

3583 أ- تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ *** فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا{[21452]}

قال : وأكثر استعماله مُثَنَّى ؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ ، وقوله :

3583 ب- . . . *** حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ{[21453]}

[ وجوَّز ] فيه أبو البقاء{[21454]} أن يكون مصدراً ، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء ؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً ، فنصبه بإضمار فعلٍ [ كأخواته ] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر ؛ نحو : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأعراف : 46 ] في أحد الوجهين ، وأنشد سيبويه{[21455]} : [ الطويل ]

وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا *** اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ{[21456]}

وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ ، كما يقال له " رَحِيمٌ " قال الزمخشريُّ : " وذلك على سبيل الاستعارةِ " .

فصل في المراد ب " حَنَاناً "

اعلم أن الحنان : أصله من الحنين ، وهو الارتياحُ ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة ، وهو صوتها ، إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكره الخليل .

وفي الحديث : أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد ، فلمَّا اتَّخذ المنبر ، وتحوَّل إليه ، حنَّت تلك الخشبةُ ، حتَّى سُمِعَ حنينُها{[21457]} ، وهذا هو الأصل ، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ ، إذا [ تعطَّف ]{[21458]} عليه ورحمهُ .

واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان ، فأجازه بعضهم ، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم ، ومنهم من أباه ؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة .

قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى .

وإذا عرف هذا ، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ :

الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى .

والثاني : أن نجعله صفةُ ل " يحيى " ، فإن جعلناه صفة لله تعالى ، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً ، أي : رحمةً منَّا .

ثم هاهنا احتمالات :

الأول : أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل " يحيى " ، والمعنى : وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [ منَّا ]{[21459]} عليه ، أي : رحمة عليه ، " وزكَاةً " أي : وتزكيةً ، وتشريفاً له .

والثاني : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا ، والمعنى : أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك " وزَكَاةً " أي : تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء .

الثالث : أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى -عليه السلام- والمعنى : آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته ؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده .

وإن جعلناه صفةً ليحيى -عليه السلام- ففيه وجوهٌ :

الأول : آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا ، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم ، كما وصف محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : { وزَكَاةً } أي : شفقةً ، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب ؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] وقال : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } [ المائدة : 54 ] .

والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله ، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق ، والطَّهارة [ عن المعاصي ]{[21460]} ، فلم يَعْص ، ولم يَهُمَّ بمعصية .

الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } : تعظيماً من لدنا{[21461]} .

والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا ؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ ، ولا تعظيم أكثر من هذا ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ ، وهو يعذب ، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء ، وهو يقول : أحدٌ ، أحدٌ ، فقال : والذي نفسي بيده ، لئنْ قتلْتُمُوه ، لاتَّخذنَّهُ حناناً ، أي : مُعَظَّماً .

قوله : { مِنْ لَدُنَّا } صفةٌ له .

قوله : { وَزَكاةً } . قال ابن عباس : هي الطَّاعة ، والإخلاص{[21462]} .

وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح{[21463]} .

والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا ، وتحنُّناً على العبادِ ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم ، وعملاً صالحاً في إخلاص .

وقال الكلبيُّ : صدقة{[21464]} تصدَّق الله بها على أبويه ، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء ، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان . وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى ، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ .

قوله : { وَكَانَ تَقِيّاً } مُخْلِصاً مُطِيعاً ، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ]{[21465]} ، ويتقي مخالفة أمر الله ، فلا يهمله ، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله ، ولا همَّ بمعصيةٍ ، وكان يحيى -عليه الصلاة والسلام- كذلك .

فإن قيل : ما معنى قوله { وَكَانَ تَقِيّاً } وهذا حين ابتداء تكليفه .

فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه .


[21452]:البيت للحطيئة. ينظر: ديوانه 82، الطبري 16/44، مجاز القرآن 2/3، البحر 6/168، القرطبي 11/60، الكامل 2/199، اللسان "حنن"، الدر المصون 4/495.
[21453]:تقدم.
[21454]:ينظر: الإملاء 2/111.
[21455]:ينظر: الكتاب 1/161.
[21456]:البيت لمنذر بن درهم الكلبي ينظر: الكتاب 1/320، والمقتضب 3/225، شرح المفصل لابن يعيش 1/118، الصاحبي 428، الهمع 1/189، التصريح 1/177، الإنصاف 3/6، الدرر 1/7163 التهذيب واللسان "حنن"، الدر المصون 4/495.
[21457]:أخرجه البخاري (6/ 696) كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام حديث (3583) من حديث ابن عمر.
[21458]:في ب: عطف.
[21459]:في ب: من لدنا.
[21460]:سقط من ب.
[21461]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/316) عن عطاء.
[21462]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/190).
[21463]:أخرجه الطبري (8/317) عن قتادة وابن جريج والضحاك.
[21464]:ينظر: معالم التنزيل 3/190.
[21465]:سقط من:أ.