قوله { وحَنَاناً } : يجوز أن يكون مفعولاً به ، نسقاً على " الحُكْمَ " أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً . والحنانُ : الرحمةُ واللّينُ ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب : [ المتقارب ]
3583 أ- تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ *** فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا{[21452]}
قال : وأكثر استعماله مُثَنَّى ؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ ، وقوله :
3583 ب- . . . *** حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ{[21453]}
[ وجوَّز ] فيه أبو البقاء{[21454]} أن يكون مصدراً ، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء ؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً ، فنصبه بإضمار فعلٍ [ كأخواته ] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر ؛ نحو : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأعراف : 46 ] في أحد الوجهين ، وأنشد سيبويه{[21455]} : [ الطويل ]
وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا *** اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ{[21456]}
وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ ، كما يقال له " رَحِيمٌ " قال الزمخشريُّ : " وذلك على سبيل الاستعارةِ " .
اعلم أن الحنان : أصله من الحنين ، وهو الارتياحُ ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة ، وهو صوتها ، إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكره الخليل .
وفي الحديث : أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد ، فلمَّا اتَّخذ المنبر ، وتحوَّل إليه ، حنَّت تلك الخشبةُ ، حتَّى سُمِعَ حنينُها{[21457]} ، وهذا هو الأصل ، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ ، إذا [ تعطَّف ]{[21458]} عليه ورحمهُ .
واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان ، فأجازه بعضهم ، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم ، ومنهم من أباه ؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة .
قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى .
وإذا عرف هذا ، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ :
الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى .
والثاني : أن نجعله صفةُ ل " يحيى " ، فإن جعلناه صفة لله تعالى ، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً ، أي : رحمةً منَّا .
الأول : أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل " يحيى " ، والمعنى : وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [ منَّا ]{[21459]} عليه ، أي : رحمة عليه ، " وزكَاةً " أي : وتزكيةً ، وتشريفاً له .
والثاني : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا ، والمعنى : أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك " وزَكَاةً " أي : تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء .
الثالث : أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى -عليه السلام- والمعنى : آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته ؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده .
وإن جعلناه صفةً ليحيى -عليه السلام- ففيه وجوهٌ :
الأول : آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا ، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم ، كما وصف محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : { وزَكَاةً } أي : شفقةً ، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب ؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] وقال : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } [ المائدة : 54 ] .
والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله ، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق ، والطَّهارة [ عن المعاصي ]{[21460]} ، فلم يَعْص ، ولم يَهُمَّ بمعصية .
الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } : تعظيماً من لدنا{[21461]} .
والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا ؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ ، ولا تعظيم أكثر من هذا ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ ، وهو يعذب ، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء ، وهو يقول : أحدٌ ، أحدٌ ، فقال : والذي نفسي بيده ، لئنْ قتلْتُمُوه ، لاتَّخذنَّهُ حناناً ، أي : مُعَظَّماً .
قوله : { مِنْ لَدُنَّا } صفةٌ له .
قوله : { وَزَكاةً } . قال ابن عباس : هي الطَّاعة ، والإخلاص{[21462]} .
وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح{[21463]} .
والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا ، وتحنُّناً على العبادِ ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم ، وعملاً صالحاً في إخلاص .
وقال الكلبيُّ : صدقة{[21464]} تصدَّق الله بها على أبويه ، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء ، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان . وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى ، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ .
قوله : { وَكَانَ تَقِيّاً } مُخْلِصاً مُطِيعاً ، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ]{[21465]} ، ويتقي مخالفة أمر الله ، فلا يهمله ، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله ، ولا همَّ بمعصيةٍ ، وكان يحيى -عليه الصلاة والسلام- كذلك .
فإن قيل : ما معنى قوله { وَكَانَ تَقِيّاً } وهذا حين ابتداء تكليفه .
فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.