مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا} (13)

ثم قال : { وحنانا من لدنا } أي إنما آتيناه الحكم صبيا حنانا من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفا له . الثاني : أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال : إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولدا ثم آتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك . { وزكاة } أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء . والثالث : أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال : { واتيناه الحكم صبيا وحنانا } منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده ، أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه . الأول : آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } وقال : { حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة ، ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وقال : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } وقال : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية ، وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن أبي رباح : { وحنانا من لدنا } والمعنى آتيناه الحكم صبيا تعظيما إذ جعلناه نبيا وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روى أنه مر ورقة ابن نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ، ويقول : أحد أحد فقال : والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا أي معظما .

الصفة الرابعة : قوله : { وزكاة } وفيه وجوه : أحدها : أن المراد وآتيناه زكاة أي عملا صالحا زكيا ، عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج . وثانيها : زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن . وثالثها : زكيناه بحسن الثناء كما تزكى الشهود الإنسان . ورابعها : صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكلبي . وخامسها : بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام : { وجعلني مباركا أينما كنت } واعلم أن هذا يدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى وحمله على الألطاف بعيد لأنه عدول عن الظاهر . الصفة الخامسة : قوله : { وكان تقيا } وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله ، وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك ، فإن قيل ما معنى : { وكان تقيا } وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا : إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه .