قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، قرأ يعقوب : آزر بالرفع ، يعني آزر ، والقراءة المعروفة بالنصب ، وهو اسم أعجمي لا ينصرف ، فينصب في موضع الخفض ، قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم ، وهو تارخ أيضاً ، مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من كوثى ، قرية من سواد الكوفة ، وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأبي إبراهيم ، واسمه تارخ ، وقال سليمان التيمي : هو سب وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج ، وقيل : معناه الشيخ الهرم بالفارسية ، وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم ، فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره : أتتخذ آزر إلهاً .
{ 74 - 83 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إلى آخر القصة .
يقول تعالى : واذكر قصة إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك ، وإذ قال لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا ، وتركتم عبادة خالقكم ، ورازقكم ، ومدبركم .
وبعد أن ساق القرآن ألواناً من الأدلة على وحدانية الله وسعة علمه وقدرته أخذ فى التدليل على بطلان الشرك وإثبات التوحيد عن طريق القصة ، فحكى لنا جانباً مما قاله إبراهيم لأبيه وقومه فقال - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ . . . . } .
المعنى : واذكر يا محمد وذكر قومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن قال إبراهيم لأبيه آزر منكراً عليه عبادة الأصنام { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } تعبدها من دون الله الذى خلقك فسواك فعدلك { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } الذين يتبعونك فى عبادتها فى ضلال مبين ، أى فى انحراف ظاهر بين عن الطريق المستقيم .
قال الآلوسى : ( وآزر بزنة آدم علم أعجمى لأبى إبراهيم - عليه السلام - وكان من قرية من سواد الكوفة ، وهو بدل من إبراهيم أو عطف بيان عليه ، وقيل : إنه لقب لأبى إبراهيم واسمه الحقيقى تارخ وأن آزر لقبه ، وقيل هو اسم جده ومنهم من قال اسم عمه ، والعم والجد يسميان أبا مجازا ) .
والاستفهام فى قوله { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } للإنكار . والتعبير بقوله { أَتَتَّخِذُ } الذى هو افتعال من الأخذ ، فيه إشارة بأن عبادته هو وقومه لها شىء مصطنع ، والأصنام ليست أهلا للألوهية ، وفى ذلك ما فيه من التعريض بسخافة عقولهم ، وسوء تفكيرهم .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها فى كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشىء المشاهد لوضوحه ، وعليه فقوله { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فى موضع المفعول الثانى .
ووصف الضلال بأنه مبين يدل على شدة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئى .
قال الشيخ القاسمى : قال بعض مفسرى الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصحية فى الدين لا سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب فهو أهم ، ولهذا قال - تعالى - { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } وقال - تعالى - : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } وقال صلى الله عليه وسلم " أبدأ بنفسك ثم بمن تعول " ولهذا بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بعلى وخديجة وزيد وكانوا معه فى الدار فآمنوا وسبقوا ، ثم بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالى ، وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه ، وتدل هذه الآية - أيضا - على أن النصيحة فى الدين ، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق ، وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة " وعلى وجه آزر قترة وغبره " فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصنى ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتنى أن لا تخزنى يوم يبعثون ، فأى خزى أخزى من أبى الأبعد ؟ فيقول الله - تعالى - " إنى حرمت الجنة على الكافرين " " .
ثم قال الشيخ القاسمى : والآية حجة على الشيعة فى زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا ، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه ، وذلك لأن الأصل فى الإطلاق الحقيقة ومصله لا يجزم به من غير نقل " .
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي ، هذا أكبر ، فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين ) .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في ضميرها ، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله ! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا ، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته . . ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى ، والامتلاء الجياش ، بهذه الحقيقة ، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها ! . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ؛ ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة :
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهة - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد ، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء ، والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر ، أو وثنا من خشب . . وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد ؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد !
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين ، فتنكره وتستنكره ، وتجهر بكلمة الحق وتصدع ، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة :
( أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين ، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة ، وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .
قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزرُ ، إنما كان اسمه تارح . رواه ابن أبي حاتم .
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو عاصم شبيب ، حدثنا عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } يعني بآزر : الصنم ، وأبو إبراهيم اسمه تارح ، وأمه اسمها مثاني ، وامرأته اسمها سارة ، وأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهي سرية إبراهيم .
وهكذا قال غير واحد من علماء النسب : إن اسمه تارح . وقال مجاهد والسُّدِّي : آزر : اسم صنم .
قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم ، فالله أعلم{[10905]}
وقال ابن جرير : وقال آخرون : " هو سب{[10906]} وعيب بكلامهم ، ومعناه : مُعْوَج " ولم يسنده ولا حكاه عن أحد .
وقد قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن مُعْتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي يقرأ : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } قال : بلغني أنها أعوج ، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم ، عليه السلام .
ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه آزر . ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح ، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس ، أو يكون أحدهما لقبا{[10907]} وهذا الذي قاله جيد قوي ، والله أعلم .
واختلف القراء في أداء قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني أنهما كانا يقرآن : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } معناه : يا آزر ، أتتخذ أصناما آلهة .
وقرأ الجمهور بالفتح ، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف ، وهو بدل من قوله : { لأبِيهِ } أو عطف بيان ، وهو أشبه .
وعلى قول من جعله نعتًا لا ينصرف أيضا كأحمر وأسود .
فأما من زعم أنه منصوب لكونه معمولا لقوله : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا } تقديره : يا أبت ، أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فإنه قول بعيد في اللغة ؛ لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، كذا قرره ابن جرير وغيره . وهو مشهور في قواعد العربية .
والمقصود أن إبراهيم ، عليه السلام ، وعظ أباه في عبادة الأصنام ، وزجره عنها ، ونهاه فلم ينته ، كما قال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : أتتأله لصنم تعبده من دون الله ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } أي : السالكين مسلكك { فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : تائهين لا يهتدون أين يسلكون ، بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل صحيح .
وقال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } [ مريم : 41 - 48 ] ، فكان إبراهيم ، عليه السلام ، يستغفر لأبيه مدة حياته ، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك ، رجع عن الاستغفار له ، وتبرأ منه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] .
وثبت في الصحيح : أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له أبوه : يا بني ، اليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : أي رب ، ألم تعدني أنك لا{[10908]} تخزني يوم يبعثون{[10909]} وأي خزي أخزي من أبي الأبعد ؟ فيقال : يا إبراهيم ، انظر ما وراءك . فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه ، فيلقى في النار{[10910]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك وخصومتك إياهم في آلهتهم وما تراجعهم فيها ، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان ، والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين وحقية ما نت عليهم محتج ، حجاجَ إبراهيم خليلي قومه ، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان ، وانقطاعه إلى الله والرضا به واليا وناصرا دون الأصنام فاتخِذْهُ إماما واقْتَدِ به ، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالاً ، إذ قال لأبيه مفارقا لدينه وعائبا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه : يا آزر .
ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ بآزر ، وما هو ؟ اسم أم صفة ؟ وإن كان اسما ، فمن المسمى به ؟ فقال بعضهم : هو اسم أبيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال : اسم أبيه آزر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : آزر : أبو إبراهيم . وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلاً من أهل كُوثَى ، من قرية بالسواد ، سواد الكوفة .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر ، قال : هو آزر ، وهو تارح ، مثل إسرائيل ويعقوب .
وقال آخرون : إنه ليس أبا إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : ليس آزر أبا إبراهيم .
حدثني الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوريّ ، قال : أخبرني رجل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ قال : آزر لم يكن بأبيه إنما هو صنم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيىبن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : آزر : اسم صنم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال : اسم أبيه . ويقال : لا ، بل اسمه تارج ، واسم الصنم آزر يقول : أتتخذ آزر أصناما آلهة .
وقال آخرون : هو سبّ وعيب بكلامهم ، ومعناه : معوجّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحقّ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ بفتح «آزر » على إتباعه الأب في الخفض ، ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه إذ لم يجرّوه وإن كان في موضع خفض . وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك : «آزرُ » ، بالرفع على النداء ، بمعنى : «يا آزرُ » . فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن آزر اسم صنم ، وإنما نصبه بمعنى : «أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فقول من الصواب من جهة العربية بعيد وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام ، لا تقول : أخاك أكلمت ، وهي تريد : أكلمت أخاك .
والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ بفتح الراء من «آزر » ، على إتباعه إعراب «الأب » ، وأنه في موضع خفض ، ففُتح إذ لم يكن جاريا لأنه اسم عجميّ . وإنما أجيزت قراءة ذلك كذلك لإجماع الحجة من القراء عليه .
وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام ، صحّ لك فتحه من أحد وجهين : إما أن يكون اسما لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله ، فيكون في موضع خفض ردّا على الأب ، ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميّا ترك إجراؤه ، ففتح كما فتح العرب في أسماء العجم . أو يكون نعتا له ، فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه ، ولكنه لما خرج مخرج أحمر وأسود ترك إجراؤه وفعل له كما يفعل بأشكاله . فيكون تأويل الكلام حينئذ : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ وإن لم يكون له وجهة في الصواب إلاّ أحد هذين الوجهين ، فأولى القولين بالصواب منهما عندي ، قول من قال : هو اسم أبيه لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه . وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الاَخر الذي زعم قائله أنه نعت .
فإن قال قائل : فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح ، فكيف يكون آزر اسما له والمعروف به من الاسم تارح ؟ قيل له : غير محال أن يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا ، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبا ، والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : أتَتّخِذُ أصْناما آلِهَة إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال : أتتخذ أصناما آلهة تعبدها وتتخذها ربّا دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك والأصنام : جمع صنم ، التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان ، وهو الوثن . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط غيره : صنم ووثن . إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقول : إني أراك يا آزر وقومك الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة في ضَلالٍ يقول : في زوال عن محجة الحق ، وعدول عن سبيل الصواب مُبِين يقول : يتبين لمن أبصره أنه جور عن قصد السبيل وزوال عن محجة الطريق القويم . يعني بذلك : أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم ، دون غيره من الاَلهة والأوثان .