{ 86 - 87 } { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ْ }
يقول تعالى في بيان استمرار المنافقين على التثاقل عن الطاعات ، وأنها لا تؤثر فيهم السور والآيات : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ْ } يؤمرون فيها بالإيمان باللّه والجهاد في سبيل اللّه .
{ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ْ } يعني : أولي الغنى والأموال ، الذين لا عذر لهم ، وقد أمدهم اللّه بأموال وبنين ، أفلا يشكرون اللّه ويحمدونه ، ويقومون بما أوجبه عليهم ، وسهل عليهم أمره ، ولكن أبوا إلا التكاسل والاستئذان في القعود { وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ْ }
ثم بين - سبحانه - موقف المنافقين وموقف المؤمنين بالنسبة للجهاد ، كما بين عاقبة كل فريق فقال - تعالى - : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ . . . . الفوز العظيم } .
والمراد بالسورة في قوله - سبحانه - { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } : كل سورة ذكر الله - تعالى - فيها وجوب الإِيمان به والجهاد في سبيله .
أى : أن من الصفات الذميمة لهؤلاء المنافقين ، أنهم كلما نزلت سورة قرآنية ، تدعو في بعض آياتها الناس إلى الإِيمان بالله والجهاد في سبيله ، ما كان منهم عند ذلك إلا الجبن والاستخذاء والتهرب من تكاليف الجهاد . . .
وقوله : { استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ . . . } بيان لحال هؤلاء المنافقين عند نزول هذه السورة .
والطول - بفتح الطاء - يطلق على الغنى والثروة ، مأخوذ من مادة الطول بالضم التي هي ضد القصر .
والمراد بأولى الطول : رؤساء المنافقين وأغنياؤهم والقادرون على تكاليف الجهاد .
أى : عند نزول السورة الداعية إلى الجهاد ، يجئ هؤلاء المنافقين أصحاب الغنى والثروة ، إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليستأذنوا في القعود وعدم الخروج . . وليقولوا له بجبن واستخذاء { ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين } .
أى : اتركنا يا محمد مع القاعدين في المدينة من العجزة والنساء والصبيان ، واذهب أنت وأصحابه إلى القتال .
وإنما خص ذوى الطول بالكذر ، تخليداً لمذمتهم واحتقارهم ؛ لأنه كان المتوقع منهم أن يتقدموا صفوف المجاهدين ، لأنهم يملكون وسائل الجهاد والبذل ، لا ليتخاذلوا ويعتذروا ، ويقولوا ما قالوا مما يدل على جبنهم والتوائهم .
( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم ، وقالوا : ذرنا نكن مع القاعدين : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون . لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وأولئك لهم الخيرات ، وأولئك هم المفلحون ، أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، ذلك الفوز العظيم ) . .
إنهما طبيعتان . . طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء . وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء . وإنهما خطتان . . خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون . وخطة الاستقامة والبذل والكرامة .
فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول ، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل . جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها اللّه لهم ، وشكر النعمة التي أعطاها اللّه إياهم ، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن . دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان ، ما دام فيها السلامة ، وطلاب السلامة لا يحسون العار ، فالسلامة هدف الراضين بالدون :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مّعَ الْقَاعِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا أنزل عليك يا محمد سورة من القرآن ، بأن يقال لهؤلاء المنافقين : آمِنُوا باللّهِ يقول : صدّقوا بالله وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ يقول : اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ يقول : استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك والقعود في أهله وَقالُوا ذَرْنا يقول : وقالوا لك : دعنا نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطّوْلِ قال : يعني أهل الغنى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أُولُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ يعني : الأغنياء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أنْ آمِنُوا باللّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ كان منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ، فنعى الله ذلك عليهم .
وقوله { وإذا أنزلت سورة } الآية ، العامل في { إذا } { استأذنك } ، «والسورة » المشار إليها هي براءة فيما قال بعضهم ، ويحتمل أن يكون إلى كل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول ، وسورة القرآن أجمع على ترك همزها في الاستعمال واختلف هل أصلها الهمز أم لا فقيل أصلها الهمز فهي من أسأر إذا بقيت له قطعة من الشيء ، فالسورة قطعة من القرآن ، وقيل أصلها أن لا تهمز فهي كسورة البناء وهي ما يبنى منه شيئاً بعد شيء ، فهي الرتبة بعد الرتبة ، ومن هذا قول النابغة : [ الطويل ]
ألم تر أنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سَوْرَةً*** ترى كلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذبْذَبُ
وقد مضى هذا كله مستوعباً في صدر هذا الكتاب ، و { أن } في قوله : { أن آمنوا } يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فهي على هذا لا موضع لها ، ويحتمل أن يكون التقدير ب «أن » فهي في موضع نصب{[5823]} ، و { الطول } في هذه الآية المال ، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما ، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس وعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم ، و «القاعدون » الزمنى وأهل العذر في الجملة ومن ترك لضبط المدينة لأن ذلك عذر .