قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } . أي جازوا الحد ، وأصل السبت : القطع ، قيل : سمي يوم السبت بذلك لأن الله تعالى قطع فيه الخلة ، وقيل لأن اليهود أمروا فيه بقطع الأعمال ، والقصة فيه : أنهم كانوا زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت ، فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك ، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها ، حتى لا يرى الماء لكثرتها ، فإذا مضى السبت تغرقن ولزمن قعر البحر ، فلا يرى شيء منها ، فذلك قوله تعالى : ( إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) .
ثم أن الشيطان وسوس إليهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر ، وشرعوا منها إليها الأنهار ، فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار ، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض ، فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها ، فإذا كان يوم الأحد أخذوها ، وقيل : كانوا يسوقون الحيتان إلى الحياض يوم السبت ولا يأخذونها ثم يأخذونها يوم الأحد ، وقيل : كانوا ينصبون الحبائل والشخوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا : ما نرى السبب إلا وقد أجل لنا ، فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا وأثروا وكثر مالهم ، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية ، وكان نحواً من سبعين ألفاً ، ثلاثة أصناف : صنف أمسك ونهى ، وصنف أمسك ولم ينه ، وصنف انتهك الحرمة ، وكان الناهون اثني عشر ألفاً ، فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا : والله لا نساكنكم في قرية واحدة ، فقسموا القرية بجدار وعبروا بذلك سنتين ، فلعنهم داود عليه السلام ، وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية ، فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم ، فلما أبطؤوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميع قردة لها أذناب يتعاوون . قال قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ ثلاثة أيام ولم يتوالدوا .
قوله تعالى : { فقلنا لهم كونوا قردة } . أمر تحويل وتكوين .
قوله تعالى : { خاسئين } . مبعدين مطرودين ، وقيل : فيه تقديم وتأخير أي كونوا خاسئين قردة ، ولذلك لم يقل خاسئات ، والخسئ الطرد والإبعاد ، وهو لازم ومتعد يقال : خسأته خسأً فخسأ خسوءاً مثل : رجعاً فرجع رجوعاً .
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }
أي : ولقد تقرر عندكم حالة { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } الآيات .
فأوجب لهم هذا الذنب العظيم ، أن غضب الله عليهم وجعلهم { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } حقيرين ذليلين .
ثم ذكرهم - سبحانه - بسوء عاقبة الذين اعتدوا منهم في السبت ، وحذرهم من أن ينهجوا نهجهم فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي . . . }
الاعتداء : مجاوزة الحد ، يقال : اعتدى فلان وتعدى إذا ظلم .
والسبت : المراد به اليوم المسمى بهذا الاسم ، وأصل السبت - كما قال ابن جرير - الهدوء والسكون في راحة ودعة ، ولذلك قيل للنائم : مسبوت لهدوئه وسكون جسده واستراحته كما قال - جل ثناؤه - { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي راحة لأبدانكم ، وهو مصدر ، من قول القائل سبت فلان يَسبِت سبتاً .
وملخص قصة اعتداء بني إسرائيل في يوم السبت ، أن الله - تعالى - أخذ عليهم عهداً بأن يتفرغو لعبادته في ذلك اليوم ، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام ، وقد أراد - سبحانه - أن يختبر استعدادهم للوفاء بعودهم ، فابتلاهم بتكاثر الحيتان في يوم السبت دون غيره ، فكانت تتراءى لهم على الساحل في ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا : لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك يوم السبت حياضاً تنساب إليها المياه في ذلك اليوم ثم نصطادها من تلك الحياض في يوم الأحد وما بعده ، وبذلك نجمع بين حترام ما عهد إلينا في يوم السبت ، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك ، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا إنما هو امتثال ظاهري لأمر الله ، ولكنه في حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد في يوم السبت ، فلم يعبأ أكثرهم بذلك ، بل نفذ تلك الحيلة ، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة ، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم .
والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا في سورة الأعراف كما جاءت الإِشارة إليه في سورتي النحل والنساء .
ثم بين - سبحانه - العقوبة التي حلت بهم بسبب اعتدائهم في يوم السبت ، وتحايلهم على استحلال محارم الله فقال - تعالى : -
{ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
أي : صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء .
والخسوء : الطرد والإِبعاد ، يقال : خسأت الكلب خسأ وخسوءاً - من باب منع - طردته وزجرته ، وذلك إذا قلت له : اخسأ .
وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا على الحقيقة ثم ماتوا بعد ذلك بوقت قصير .
ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، أي : إنهم مسخوا مسخاً نفسياً فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها .
وتلك العقوبة كانت بسبب إمعانهم في المعاصي ، وتأبيهم عن قبول النصيحة ، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم ، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإِنسان ، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان .
ومرة أخرى يواجههم بمظهر من مظاهر النكث والنكسة ، والتحلل من العهد والعجز عن الاستمساك به ، والضعف عن احتمال تكاليفه ، والضعف أمام الهوى أو النفع القريب :
( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت : فقلنا لهم : كونوا قردة خاسئين ، فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ، وموعظة للمتقين ) . .
وقد فصل القرآن حكاية اعتدائهم في السبت في موضع آخر فقال : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) . . فلقد طلبوا أن يكون لهم يوم راحة مقدس ، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدسا لا يعملون فيه للمعاش . ثم ابتلاهم بعد ذلك بالحيتان تكثر يوم السبت ، وتختفي في غيره ! وكان ابتلاء لم تصمد له يهود ! وكيف تصمد وتدع هذا الصيد القريب يضيع ؟
أتتركه وفاء بعهد واستمساكا بميثاق ؟ إن هذا ليس من طبع يهود !
ومن ثم اعتدوا في السبت . اعتدوا على طريقتهم الملتوية . راحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت ، ويقطعونها عن البحر بحاجز ، ولا يصيدونها ! حتى إذا انقضى اليوم تقدموا وانتشلوا السمك المحجوز !
( فقلنا لهم : كونوا قردة خاسئين ) . .
لقد حق عليهم جزاء النكول عن عهدهم مع الله ، والنكوص عن مقام الإنسان ذي الإرادة . فانتكسوا بهذا إلى عالم الحيوان والبهيمة ، الحيوان الذي لا إرادة له ، والبهيمة التي لا ترتفع على دعوة البطون ! انتكسوا بمجرد تخليهم عن الخصيصة الأولى التي تجعل من الإنسان إنسانا . خصيصة الإرادة المستعلية المستمسكة بعهد الله .
وليس من الضروري أن يستحيلوا قردة بأجسامهم ، فقد استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم ، وانطباعات الشعور والتفكير تعكس على الوجوه والملامح سمات تؤثر في السحنة وتلقي ظلها العميق !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.