المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعۡتَدَوۡاْ مِنكُمۡ فِي ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ} (65)

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 65 )

{ علمتم } معناه : عرفتم ، كما تقول : علمت زيداً بمعنى عرفته ، فلا يتعدى العلم( {[735]} ) إلا إلى مفعول واحد ، و { اعتدوا } معناه تجاوزوا الحد ، مصرف( {[736]} ) من الاعتداء ، و { في السبت } معناه في يوم( {[737]} ) السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت ، و { السبت }( {[738]} ) مأخوذ إما : من السبوت الذي هو الراحة والدعة ، وإما من السبت وهو : القطع ، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت( {[739]} ) خلقتها .

وقصة اعتدائهم فيه ، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة ، وعرفه فضله ، كما أمر به سائر الأنبياء ، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه( {[740]} ) ، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت ، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك ، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان ، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية . قاله الحسن بن أبي الحسن . وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء ، وذلك إما بالإلهام( {[741]} ) من الله تعالى ، أو بأمر لا يعلل ، وإما بأن فهمها معنى الأمنة( {[742]} ) التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك ، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة ، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقاً من الساعة »( {[743]} ) ، وحمام مكة قد فهم الأمنة ، إما أنها متصلة( {[744]} ) بقرب فهمها .

وكان أمر بني إسرائيل بأيلة( {[745]} ) على البحر ، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر ، فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت ، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتاً بخزمة( {[746]} ) ، وضرب له وتداً بالساحل ، فلما ذهب السبت جاءَ وأخذه ، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع ، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر ، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير ، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه ، ففعل قوم مثل فعله ، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية ، وباعوه في الأسواق ، فكان هذا من أعظم الاعتداء ، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة ، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه ، فقيل نجت مع الناهين ، وقيل هلكت مع العاصين .

و { كونوا } لفظة أمر ، وهو أمر التكوين ، كقوله تعالى لكل شيء : { كن فيكون } [ النحل : 40 مريم : 35 ، يس : 82 ، غافر : 68 ] ، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب .

و { خاسئين } معناه مبعدين أذلاء صاغرين ، كما يقال للكلب وللمطرود اخساً . تقول خسأته فخسأ ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر .

وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين { قردة } بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدها ومجتمعاتهم ، فلم يروا أحداً من الهالكين ، فقالوا إن للناس لشأناً ، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل ، فوجدوهم { قردة } يعرفون الرجل والمرأة ، وقيل : إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار ، تبرياً منهم ، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين ، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة ، يثب بعضهم على بعض .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن أن المسوخ( {[747]} ) لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام( {[748]} ) ؛ ووقع في كتاب( {[749]} ) مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت ، وأراها الفأر ، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل ، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل ، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر ، وأمره باطراح تذكير النخل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر »( {[750]} ) .

وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة ، والأول أقوى وأظهر( {[751]} ) .


[735]:- أي الذي معناه المعرفة.
[736]:- أي مشتق، يقال: صرف الكلام اشتق بعضه من بعض.
[737]:- ذلك لأنهم وإن كانوا يأحذونها في يوم الأحد فإنهم يحبسونها في يوم السبت، فقد صادوها يوم حبسوها، لا يوم أخذوها، وبذلك يكون اعتداؤهم يوم السبت، فقد خالفوا حكم الله وانتهكوا حرمة يوم السبت، وبذلك كانت حيلتهم باطلة، واستحقوا أن يكونوا قردة وخنازير.
[738]:- اسم ليوم من أيام الاسبوع ومن معانيه في اللغة: الراحة – والدهر- وحلق الرأس، وضرب من سير الإبل، وهو إما مأخوذ من السبوت بمعنى الراحة، وإما من السبت الذي هو ي الأصل مصدر، ومعناه القطع، كما قال المؤلف رحمه الله.
[739]:- المعروف أن الله عز وجل خلق الأشياء في ستة أيام، وقالوا: إنه سبحانه ابتدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وفي يوم السبت انقطع العمل وثم خلق الأشياء، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله التربة يوم السبت"، إلا أن هذا الحديث الذي استوعب الأيام السبعة استنكره بعض الأكابر من الحفاظ، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا.
[740]:- وفي بعض النسخ: "بالخشوع" وهي أولى وأنسب.
[741]:- أي ألهمها أنها لا تصاد في يوم السبت.
[742]:- الأمنة هي سكون القلب واطمئنانه، والمراد أنها فهمت بالتدرج وبالتكرار.
[743]:- أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" وأبو داود في كتاب "العلم" والنسائي في "فضائل القرآن" والترمذي في "التفسير".
[744]:- أي دائمة وذلك أن الأمنة في قضية الحيتان كانت مؤقتة بيوم السبت، وفي حمام مكة كانت دائمة ومستمرة ولذلك كان فهمها سهلا وقريبا. وسياق الكلام يقتضي أن تحذف (أما) وأن تصبح العبارة (وحمام مكة قد فهم الأمنة لأنها متصلة)- تأمل.
[745]:- (ايلة): قرية عند العقبة على شاطئ البحر.
[746]:- ما يفتل من شجر الدوم ويخزم به أنف البعير، وفي القرطبي "زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه (وهقة) ويلقيها في ذنب الحوت- واللفظة بالقاف لا بالفاء كما رواها القرطبي- وهي حبل في طرفه أنشوطة يطرح في عنق الدابة حتى تؤخذ. وفي البحر المحيط: "خزمة" أي: حبلا من لحاء شجر تتخذ من لحائه الحبال- وفي اللسان: حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه يشد بها الزمام اهـ. ولا عبرة بالمادة التي تصنع منها- فهي في كل بيئة تصنع من نوع مناسب- ولكنها توضع في أنف البعير أو كل دابة للسيطرة عليها.
[747]:- يقال: مسخ فلانا فهو: مسخ ومسيخ والجمع مسوخ.
[748]:- هذا هو قول الجمهور، ويشهد له ما أخرجه الإمام مسلم في كتاب "القدر" عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، أنه ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القردة والخنازير أهي مما مسخ فقال: "إن الله لم يجعل لمسخ نسلا وعقبا" وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك"- وأما ما استدل به القاضي أبو بكر بن العربي، والزجاج، من حديث أبي هريرة: "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته؟". ومن حديث الضب: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت"، فهذا إنما هو ظن وحدس م النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر من كلامه، وكان ذلك قبل أن يوحى إليه، ولما أوحى إليه قال: "إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك". فهذا نص صريح في أن الذين مسخهم الله قد هلكوا، ولم يبقى لهم نسل- وأن القردة والخنازير كانوا قبل مسخ بني إسرائيل- وقد ثبت كما في الصحيح أكل الضب بحضرته صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره. فدل ذلك على صحة ما اشرنا إليه.
[749]:- أي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[750]:- حديث تأبير النخل مروي عن رافع بن خديج، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يؤبرون النخل. يقولون: يلقحون، قال: فقال: "ما تصنعون"؟ فقالوا شيئا كانوا يصنعونه، فقال: "لو لم تفعلوا كان خيرا" فتركوها فنفضت، أو نقصت، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، غذا حدثتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر". –انظر صحيح ابن حبان- وفي رواية: "أنتم أعلم بأمر دنياكمت" رواه الإمام مسلم في وجوب امتثال قوله صلى الله عليه وسلم إلا ما قاله في الأمور الدنيوية على سبيل الظن. والله أعلم.
[751]:- بل قول مجاهد قول غريب وبعيد، انفرد به رحمه الله عن المفسرين، بل عن المسلمين، والحق أن المسخ كان صوريا ومعنويا، وهذا المسخ كان في زمن داود عليه السلام.