الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعۡتَدَوۡاْ مِنكُمۡ فِي ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ} (65)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } : اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لقد ، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها ، و " قد " حرف تحقيق وتوقع ، ويُفيد في المضارع التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق ، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى المُضيِّ كقوله :

قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه *** كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ

وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ ، وتُحْدِثُ في الماضي التقريبَ من الحالِ . وفي عبارة بعضِهم : " قد : حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال " ويكونُ اسماً بمعنى حَسْب نحو : قدني درهمٌ أي : حسبي ، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم غالباً ، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين ، قال :

قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه :

أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا *** لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ

أي : قد زالت ، وللقسم وجوابِه أحكامٌ تأتي إنْ شاء الله تعالى مفصَّلةً . و " عَلِمْتُمِ " بمعنى عَرَفْتُم ، فيتعدَّى لواحدٍ فقط ، والفرقُ بين العلم والمعرفة أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي عليه من الأحوال نحو : عَلمتُ زيداً قائماً أو ضاحكاً ، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ ، وقيل : لأنَّ المعرفةَ يسبقها جهلٌ ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ عليه سبحانه .

{ الَّذِينَ اعْتَدَواْ } الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ ، كما قدَّره بعضُهم ، أي : أحكامُ الذين اعتدوا ، لأنَّ المعنى عَرَقْتم أشخاصَهم وأعيانَهم . وأصلُ اعتَدَوْا : اعتَدَيُوا ، فأُعِلَّ بالحذف ووزنه افْتَعَوا ، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه .

قوله : " منكم " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في " اعتدَوا " ويجوز أن يكونَ من " الذين " أي : المعتدين كائنين منكم ، و " مِنْ " للتبعيض .

قوله : { فِي السَّبْتِ } متعلِّقٌ باعتَدَوا ، والمعنى : في حُكْم السبت ، وقال أبو البقاء : وقد قالوا : اليومَ السبتُ ، فجعلوا " اليومَ " خبراً عن السبت ، كما يقال ، اليومَ القتالُ ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم السبت " . والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ ، أي : قَطَعَ العمل . وقال ابن عطية : " والسَّبتُ : إمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة ، وإمَّا من السَّبْت وهو القطع ، لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتَمَّتْ خِلْقَتُها ، ومنه قولُهم : سَبَتَ رأسَه أي : حَلَقه . وقال الزمخشري : " والسبتُ مصدرُ سَبَتَتِ اليهودُ إذا عَظَّمت يومَ السبتِ " وفيه نظرٌ ، فإنَّ هذا اللفظ موجودٌ واشتقاقُه مذكورٌ في لسان العرب قبل فِعْل اليهودِ ذلك ، الهم إلا أَنْ يريدَ هذا السبتَ الخاصَّ المذكورَ في هذه الآيةِ . والأصلُ فيه المصدرُ كما ذكرتُ ، ثم سُمِّي به هذا اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ وقُطِعَ ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً ، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما أشبهه من أسماءِ الأزمنة مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه نحو : اليوم الجمعةُ ، اليوم العيدُ ، كما يقال : اليوم الاجتماعُ والعَودُ ، فإنْ ذُكِرَ مع " الأحد " وأخواتِه وَجَب/ الرفعُ على المشهورِ ، وتحقيقُها مذكورٌ في كتبِ النحوِ .

قوله : { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها أن يكونا خبرين ، قال الزمخشري : " أي : كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء " وهذا التقديرُ بناءً منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ ، فلذلك قَدَّرهما بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب : هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، وقد تقدَّم القول فيه . الثاني : أن يكون " خاسئين " نعتاً لقِردة ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ ، وهذا جَمْعُ العقلاء . فإنْ قيل : المخاطبون عُقَلاء . فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد ، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ : كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء ، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك ، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء ، كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] ، { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . الثالث : أن يكون حالاً من اسم " كونوا " والعاملُ فيه " كونوا " وهذا عندَ مَنْ يُجيز ل " كان " أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ . وفيه خلافٌ سيأتي تحقيقُه عند قولِه تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [ يونس : 2 ] إن شاء الله تعالى . الرابع وهو الأجْوَدُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " قِرَدَةً " لأنه في معنى المشتقِّ ، أي : كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ ، وجَمْعُ فِعْل على فِعَلة قليلٌ لا ينقاس .

ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون ، تقول : " قَرَد بمكان كذا " أي : لَصِق به وسكن ، ومنه الصوفُ القَرَد " أي المتداخلُ ، ومنه أيضاً : " القُراد " هذا الحيوانُ المعروف . ويقال : خَسَأْتُه فَخَسَأَ ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض ، وقيل : يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ . وقال الكسائي : " خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً ، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين المصدَرَيْن ، والخُسُوءُ : الذِّلَّة والصَّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه خَسَأْتُ الكلبَ .