قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } : اللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لقد ، وهكذا كلُّ ما جاءَ من نظائرِها ، و " قد " حرف تحقيق وتوقع ، ويُفيد في المضارع التقليلَ إلا في أفعال الله تعالى فإنَّها للتحقيق ، وقد تُخْرِجُ المضارع إلى المُضيِّ كقوله :
قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه *** كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ
وهي أداةٌ مختصةٌ بالفعلِ ، وتَدْخُل على الماضي والمضارعِ ، وتُحْدِثُ في الماضي التقريبَ من الحالِ . وفي عبارة بعضِهم : " قد : حرفٌ يَصْحَبُ الأفعالَ ويُقَرِّبُ الماضِيَ من الحالِ ، ويُحْدِثُ تقليلاً في الاستقبال " ويكونُ اسماً بمعنى حَسْب نحو : قدني درهمٌ أي : حسبي ، وتتصل بها نونُ الوقايةِ مع ياء المتكلم غالباً ، وقد جَمَعَ الشاعر بين الأمرين ، قال :
قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإذا كانت حرفاً جاز حَذْفُ الفعلِ بعدَها كقولِه :
أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا *** لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ
أي : قد زالت ، وللقسم وجوابِه أحكامٌ تأتي إنْ شاء الله تعالى مفصَّلةً . و " عَلِمْتُمِ " بمعنى عَرَفْتُم ، فيتعدَّى لواحدٍ فقط ، والفرقُ بين العلم والمعرفة أنَّ العلمَ يستدعي معرفةَ الذاتِ وما هي عليه من الأحوال نحو : عَلمتُ زيداً قائماً أو ضاحكاً ، والمعرفةُ تستدعي معرفةَ الذاتِ ، وقيل : لأنَّ المعرفةَ يسبقها جهلٌ ، والعلمُ قد لا يَسْبِقُه جهلٌ ، ولذلك لا يجوزُ إطلاقُ المعرفةِ عليه سبحانه .
{ الَّذِينَ اعْتَدَواْ } الموصولُ وصلتُه في محلِّ النصبِ مفعولاً به ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ ، كما قدَّره بعضُهم ، أي : أحكامُ الذين اعتدوا ، لأنَّ المعنى عَرَقْتم أشخاصَهم وأعيانَهم . وأصلُ اعتَدَوْا : اعتَدَيُوا ، فأُعِلَّ بالحذف ووزنه افْتَعَوا ، وقد عُرِفَ تصريفُه ومعناه .
قوله : " منكم " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في " اعتدَوا " ويجوز أن يكونَ من " الذين " أي : المعتدين كائنين منكم ، و " مِنْ " للتبعيض .
قوله : { فِي السَّبْتِ } متعلِّقٌ باعتَدَوا ، والمعنى : في حُكْم السبت ، وقال أبو البقاء : وقد قالوا : اليومَ السبتُ ، فجعلوا " اليومَ " خبراً عن السبت ، كما يقال ، اليومَ القتالُ ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم السبت " . والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ ، أي : قَطَعَ العمل . وقال ابن عطية : " والسَّبتُ : إمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة ، وإمَّا من السَّبْت وهو القطع ، لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتَمَّتْ خِلْقَتُها ، ومنه قولُهم : سَبَتَ رأسَه أي : حَلَقه . وقال الزمخشري : " والسبتُ مصدرُ سَبَتَتِ اليهودُ إذا عَظَّمت يومَ السبتِ " وفيه نظرٌ ، فإنَّ هذا اللفظ موجودٌ واشتقاقُه مذكورٌ في لسان العرب قبل فِعْل اليهودِ ذلك ، الهم إلا أَنْ يريدَ هذا السبتَ الخاصَّ المذكورَ في هذه الآيةِ . والأصلُ فيه المصدرُ كما ذكرتُ ، ثم سُمِّي به هذا اليومُ من الأسبوع لاتفاقِ وقوعِه فيه كما تقدَّم أنَّ خَلْقَ الأشياء تَمَّ وقُطِعَ ، وقد يقال يومُ السبتِ فيكونُ مصدراً ، وإذا ذُكِرَ معه اليومُ أو مع ما أشبهه من أسماءِ الأزمنة مِمَّا يتضمَّن عَمَلاً وحَدَثاً جاز نصبُ اليومِ ورفعُه نحو : اليوم الجمعةُ ، اليوم العيدُ ، كما يقال : اليوم الاجتماعُ والعَودُ ، فإنْ ذُكِرَ مع " الأحد " وأخواتِه وَجَب/ الرفعُ على المشهورِ ، وتحقيقُها مذكورٌ في كتبِ النحوِ .
قوله : { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها أن يكونا خبرين ، قال الزمخشري : " أي : كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء " وهذا التقديرُ بناءً منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ ، فلذلك قَدَّرهما بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب : هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، وقد تقدَّم القول فيه . الثاني : أن يكون " خاسئين " نعتاً لقِردة ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ ، وهذا جَمْعُ العقلاء . فإنْ قيل : المخاطبون عُقَلاء . فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد ، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ : كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء ، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك ، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء ، كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] ، { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . الثالث : أن يكون حالاً من اسم " كونوا " والعاملُ فيه " كونوا " وهذا عندَ مَنْ يُجيز ل " كان " أن تعملَ في الظروفِ والأحوالِ . وفيه خلافٌ سيأتي تحقيقُه عند قولِه تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [ يونس : 2 ] إن شاء الله تعالى . الرابع وهو الأجْوَدُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " قِرَدَةً " لأنه في معنى المشتقِّ ، أي : كونوا مَمْسُوخِينَ في هذه الحالةِ ، وجَمْعُ فِعْل على فِعَلة قليلٌ لا ينقاس .
ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون ، تقول : " قَرَد بمكان كذا " أي : لَصِق به وسكن ، ومنه الصوفُ القَرَد " أي المتداخلُ ، ومنه أيضاً : " القُراد " هذا الحيوانُ المعروف . ويقال : خَسَأْتُه فَخَسَأَ ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض ، وقيل : يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ . وقال الكسائي : " خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً ، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين المصدَرَيْن ، والخُسُوءُ : الذِّلَّة والصَّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه خَسَأْتُ الكلبَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.