البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعۡتَدَوۡاْ مِنكُمۡ فِي ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ} (65)

السبت : اسم ليوم معلوم ، وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع ، أو من السبات ، وهو الدعة والراحة ، وقال أبو الفرج بن الجوزي : هذا خطأ لا يعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح ، والسبت : الحلق والسير ، قال الشاعر :

بمقوّرة الألياط أمّا نهارها***

فسبت وأمّا ليلها فذميل

والسبت : النعل ، لأنه يقطع كالطحن والرعي .

قال ابن جريج : سمي يوم السبت لأنه قطعة زمان ، قال لبيد :

وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس***

لو كان للنفس اللحوح خلود

القرد : معروف ، ويجمع فعل الاسم قياساً على فعول نحو : قرد وقرود ، وجسم وجسوم ، وقليلاً على فعلة نحو : قرد وقردة ، وحسل وحسلة .

الخسء : الصغار والطرد ، والفعل : خسأ ، ويكون لازماً ومتعدّياً ، يقال : خسأ الكلب خسوا : ذل وبعد ، وخسأته : طردته وأبعدته ، خسأ : كرجع رجوعاً ، ورجعته رجعاً .

{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } اللام في لقد : هي لام توكيد ، وتسمى : لام الابتداء في نحو : لزيد قائم .

ومن أحكامها : أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها ، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو .

وقد صنف بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها .

ويحتمل أن تكون جواباً لقسم محذوف ، ولكنه جيء على سبيل التوكيد ، لأن مثل هذه القصة يمكن أن يبهتوا في إنكارها ، وذلك لما نال في عقبى أولئك المعتدين من مسخهم قردة ، فاحتيج في ذلك إلى توكيد ، وأنهم علموا ذلك حقيقة .

وعلم هنا كعرف ، فلذلك تعدّت إلى واحد .

وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين ، وقدّره بعضهم : علمتم أحكام الذين ، وقدّره بعضهم : اعتداء الذين .

والاعتداء كان على ما نقل من أن موسى أمره الله بصوم يوم الجمعة ، وعرّفه فضله ، كما أمر به سائر الأنبياء ، فذكر ذلك لبني إسرائيل ، وأمرهم بالتشرّع فيه ، فأبوه وتعدّوه إلى يوم السبت ، فأوحى الله إلى موسى : أن دعهم وما اختاروه .

وامتحنهم فيه ، بأن أمرهم بترك العمل ، وحرّم عليهم فيه صيد الحيتان .

فكانت تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، وقيل : حتى تخرج خراطيمها من الماء ، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر ، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان ، فلم يظهروا للسبت الآخر .

فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت ، فعمد رجل يوم السبت ، فربط حوتاً بخزمة ، وضرب له وتداً بالساحل .

فلما ذهب السبت ، جاء فأخذه فسمع قوم بفعله ، فصنعوا مثل ما صنع ، وقيل : بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر ، فإذا كان يوم السبت ، خرج الحوت وحصل في الحفيرة ، فإذا جزر البحر ، ذهب الماء من طريق الحفيرة وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه .

ففعل قوم مثل فعله .

وكثر ذلك ، حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق .

فكان هذا من أعظم الاعتداء .

وقد رويت زيادات في كيفية الاعتداء ، الله أعلم بصحة ذلك .

والذي يصح في ذلك هو ما ذكره الله في كتابه ، وما صح عن نبيه .

منكم : في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنين منكم ، ومن : للتبعيض .

في السبت : متعلق باعتدوا ، إما على إضمار يوم ، أو حكم .

والحامل على الاعتداء قيل : الشيطان وسوس لهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، ولم تنهوا عن حبسها ، فأطاعوه ، ففعلوا ذلك .

وقيل : لما فعل ذلك بعضهم ، ولم يعجل له عقوبة ، وتشبه به أناس منهم ، وفعلوا لفعله ، ظنوا أن السبت قد أبيح لهم ، فتمالأ على ذلك جمع كبير ، فأصابهم ما أصابهم .

وقيل : أقدموا على ذلك متأولين ، لأنه أمرهم بترك العمل يوم السبت ، وقالوا : إنما نهانا الله عن أسباب الاكتساب التي تشغلنا عن العبادة ، ولم ينهنا عن العمل اليسير .

وقيل : فعل ذلك أوباشهم تحرياً وعصياناً ، فعم الله الجميع بالعذاب .

{ فقلنا لهم كونوا } : أمر من الكون وليس بأمر حقيقة ، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم ، لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة ، بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف ، كقوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ومجازه : أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك .

وظاهر القرآن مسخهم قردة .

وقيل : لم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم ، كما قال تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } قاله مجاهد .

وقيل : مسخت قلوبهم حتى صارت كقلوب القردة ، لا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً ، وهو محكي عن مجاهد أيضاً .

والقول الأول هو قول الجمهور ، ويجوز أن يبقي الله لهم فهم الإنسانية بعد صيرورتهم قردة : وروي في بعض قصصهم : أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له : ألم أنهك ؟ فيقول له برأسه : بلى ، وتسيل دموعه على خده ، ولم يتعرض في هذا المسخ شيء منهم خنازير .

وروي عن قتادة : أن الشباب صاروا قردة ، واليوخ صاروا خنازير ، وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم .

وروي في قصصهم : أن الله تعالى مسخ العاصين قردة بالليل ، فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم ، فلم يروا أحداً من الهالكين ، فقالوا : إن للناس لشأناً ، ففتحوا عليهم الأبواب ، كما كانت مغلقة بالليل ، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة .

وقيل : إن الناجين قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار تبرياً منهم ، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين ، فتسوروا عليهم الجدار ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض .

قال قتادة : وصاروا قردة تعاوي ، لها أذناب ، بعدما كانوا رجالاً ونساء .

{ قردة خاسئين } : كلاهما خبر كان ، والمعنى : أنهم يكونون قد جمعوا بين القردة والخسوء .

ويجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة ، ويجوز أن يكون حالاً من اسم كونوا .

ومعنى خاسئين : مبعدين .

وقال أبو روق : خاسرين ، كأنه فسر باللازم ، لأن من أبعده الله فقد خسر .

وجمهور المفسرين : على أن الذين مسخهم الله لم يأكلوا ، ولم يشربوا ، ولم ينسلوا ، بل ماتوا جميعاً ، وأنهم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام .

وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام ، وماتوا في اليوم الثامن ، وكان هذا في زمن داود ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وكانوا في قرية يقال لها : أيلة ، وقيل : مدين .

" وروى مسلم ، عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ ؟ فقال : «الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً ، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك » " .

واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا ، وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم .

/خ66