الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعۡتَدَوۡاْ مِنكُمۡ فِي ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ} (65)

وقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت . . . }[ البقرة :65 ] . { علمتمْ } معناه : عرفتم ، و{ السَّبْتُ } مأْخوذٌ من السُّبُوت الَّذِي هو الراحةُ والدَّعَة ، وإِما من السبت ، وهو القَطْع لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتمَّت خِلْقَتُها ، وقصَّة اعتدائهم فيه أن اللَّه عز وجلَّ أمر موسى عليه السلام بيَوْمِ الجُمُعَةِ ، وعرَّفه فَضْلَه ، كما أمر به سائر الأنبياءِ صلواتُ اللَّه عَلَيْهِمْ ، فذكر موسى ذلك لبني إِسرائيل عن اللَّه سبحانه ، وأمرهم بالتشرُّع فيه ، فأبوا وتعدَّوْه إلى يوم السَّبْت ، فأوحى اللَّه إلى موسى أنْ دَعْهم ، وما اختاروا من ذلك ، وامتحنهم بأنْ أمرهم بترك العَمَل فيه ، وحرَّم عليهم صَيْدَ الحِيتَانِ ، وشدَّد عليهم المِحْنَة ، بأن كانت الحِيتَانُ تأتي يوم السبْتِ حتى تخرج إلى الأفنية ، قاله الحسن بن أبي الحسن .

وقيل حتى تخرج خراطيمُهَا من الماء ، وذلك إِما بإِلهامٍ من اللَّه تعالى ، أو بأمر لا يعلَّل ، وإما بأن ألهمها معنى الأَمَنَةِ التي في اليومِ مع تكراره ، كما فَهِمَ حمام مَكَّة الأَمَنَةَ ، وكان أمر بني إِسرائيل بِأَيْلَةَ على البحْر ، فَإِذا ذهب السَّبْت ذهبت الحيتان ، فلم تظهر إلى السبت الآخر ، فبقُوا على ذلك زماناً ، حتى اشْتَهَوُا الحُوتَ ، فعَمَدَ رجُلٌ يوم السبْتِ فربط حوتاً بخزمة ، وضرب له وَتِداً بالساحل ، فلما ذهب السَّبْتُ جاء فأخذه ، فسَمِع قومٌ بفعْلِهِ ، فصنعوا مثْلَ ما صنع .

وقيل : بل حفر رجُلٌ في غير السَّبْت حَفِيراً يخرج إِلَيْه البحر ، فإِذا كان يوم السبت خرج الحوت ، وحصل في الحفير ، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير ، وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه ، ففعل قَوْمٌ مثْلَ فعله ، وكَثُرَ ذلك حتى صادوه يوم السبت علانيةً ، وباعوه في الأسواقِ ، فكان هذا من أعظم الاعتداء ، وكانت من بني إِسرائيل فرقةٌ نهَتْ عن ذلك ، فنجَتْ من العقوبة ، وكانت منهم فرقةٌ لم تَعْصِ ولم تَنْهَ ، فقيل : نجت مع الناهين ، وقيل : هلَكَتْ مع العاصينَ .

وَ{ كُونُواْ } لفظةُ أمر وهو أمر التكوينِ ، كقوله تعالى لكُلِّ شَيْءٍ : { كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] ، قال ابن الحاجب في مختصره الكَبِيرِ المسمى ب «منتهى الوُصُولِ » : صيغةُ : أفعل وما في معناها قد صَحَّ إِطلاقها بإزاء خمسةَ عَشَرَ محملاً .

الوجوبُ { وأَقِمِ الصلاة } [ هود :114 ] والنَّدْبُ { فكاتبوهم } [ النور : 33 ] .

والإِرشادُ { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] والإِباحةُ { فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] .

والتأديب كُلْ مِمَّا يَلِيكَ ، والامتنانُ : { وكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } [ المائدة :88 ] . والإِكرامُ { ادخلوها بِسَلامٍ } [ الحجر : 46 ] والتَّهديد { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ، والإِنذار { تَمَتَّعُواْ } [ هود :65 ] والتسخيرُ { كُونُواْ قِرَدَةً } [ البقرة :65 ] ، والإِهانة : { كُونُواْ حِجَارَةً } [ الإسراء : 50 ] والتَّسويةُ : { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } [ الطور : 16 ] ، والدعاءُ { واغفر لَنَا } [ البقرة :286 ] ، والتمنِّي : [ الطويل ]

أَلاَ انجلي *** وكمالُ القدرة { كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة :117 ] ، انتهى .

وزاد غيره كونها للتعجيزِ أعني صيغةَ أفعل .

قال ابن الحاجِبِ ، وقد اتفق على أنها مجازٌ فيما عَدَا الوُجُوبَ ، والنَّدْبَ ، والإِباحةَ ، والتهديدَ ، ثم الجمهورُ على أنها حقيقةٌ في الوجوب ، انتهى .

و{ خاسئين } معناه : مُبْعَدِينَ أذلاَّء صاغِرِينَ ، كما يقال للكَلْب وللمطْرُود إخسأ ، وروي في قصصهم أنَّ اللَّه تعالى مسخ العاصِينَ قردَةً في الليل ، فأصبح الناجُونَ إلى مساجِدِهِمْ ومجتمعاتِهِمْ ، فلم يروا أحداً من الهالكينَ ، فقالوا : إِن للنَّاس لشأناً ، ففتحوا عليهم الأبوابَ ، لما كانت مغْلَقة باللَّيْل ، فوجدوهم قردَةً ، يعرفون الرجُلَ والمرأة .

وقيل إن الناجينَ كانُوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القريَةَ بجِدَارٍ تَبَرِّياً منهم ، فأصبحوا ولم تفتحْ مدينةُ الهالكين ، فتسوَّروا عليهم الجدارَ ، فإِذَا هم قردةٌ يثبُ بعضُهم على بعْضٍ .

وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وثبت أنَّ المُسُوخَ لا تنسل ولا تأكل ولا تشرَبُ ، ولا تعيشُ أكثَرَ من ثلاثة أيامٍ ، ووقع في كتاب مسْلِمٍ عنه صلى الله عليه وسلم ( إنَّ أُمَّةً من الأُمَمِ فُقِدَتْ ، وَأُرَاهَا الفأر ) ، وظاهر هذا أنَّ المسوخ تنسل ، فإن كان أراد هذا فهو ظَنٌّ منه صلى الله عليه وسلم في أمر لا مَدْخَلَ له في التبليغِ ، ثم أوحي إِلَيْه بعد ذلك أنَّ المسوخ لا تنسل ، ونظير ما قُلْناه نزولُهُ صلى الله عليه وسلم على مياهِ بَدْرٍ ، وأمره باطراح تذكير النخل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أخبرتكم عنِ اللَّهِ تعالى ، فهو كما أخبرتكم ، وإذا أخبرتكم برأْيِي في أمور الدنيا فإِنما أنا بشَرٌ مثلُكُم ) .