{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادً } ، الآية . قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد ، وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض . وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر ، وهو أبو بردة الأسلمي ، على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج ، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شاهداً فشدوا عليهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فنزل جبريل عليه السلام بالقضية فيهم ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة وعكل ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة ، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو قلابة الجرمي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا ، واجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا ، فارتدو ، ا وقتلوا رعاتها ، واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فأتى بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا .
ورواه أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس رضي الله عنه قال : فقطع أيديهم ، وأرجلهم ، ثم أمر بمسامير فكحلهم بها ، وطرحهم بالحرة يستسقون ، فما يسقون حتى ماتوا .
قال أبو قلابة : قتلوا ، وسرقوا ، وحاربوا الله ورسوله ، وسعوا في الأرض فساداً . واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين ، فقال بعضهم : هي منسوخة ، لأن المثلة لا تجوز ، وقال بعضهم : حكمه ثابت إلا السمل والمثلة . و روى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن ينزل الحد ، وقال أبو الزناد : فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ، ونهاه عن المثلة ، فلم يعد . وعن قتادة قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة ، وينهى عن المثلة . وقال سليمان التيمي عن أنس : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة ، وقال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً منه إياه عقوبتهم ، وقال : إنما جزاؤهم هذا لا المثلة ، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً إلا نهى عن المثلة . واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد ، فقال قوم : هم الذين يقطعون الطريق ، ويحملون السلاح على المسلمين ، والمكابرون في الأمصار ، وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، والليث بن سعد ، والشافعي رحمهم الله . وقال قوم : هم المكابرون في الأمصار ، ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد . وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه . وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى .
قوله تعالى : { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ، فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب ، والنفي كما هو ظاهر الآية ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن والنخعي ومجاهد . وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق ، إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض . وهو قول قتادة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى . وإذا قتل قاطع الطريق يقتل حتماً حتى لا يسقط بعفو ولي الدم ، وإذا أخذ من المال نصاباً ، وهو ربع دينار ، تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإذا قتل وأخذ المال يقتل ويصلب . واختلفوا في كيفيته : فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يقتل ، ثم يصلب ، وقيل : يصلب حياً ، ثم يطعن حتى يموت مصلوباً ، وهو قول الليث بن سعدويه ، وقيل : يصلب ثلاثة أيام حياً ، ثم ينزل فيقتل ، وإذا أخاف السبيل ينفى . واختلفوا في النفي : فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ، ففي كل بلد يوجد ينفى عنه ، وهو قول سعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وقيل : يطلبون لتقام عليهم الحدود ، وهو قول ابن عباس ، والليث بن سعدويه ، قال الشافعي : وقال أهل الكوفة : النفي هو الحبس ، وهو نفي من الأرض ، وقال محمد بن جرير : ينفي من بلده إلى غيره ، ويحبس في السجن في البلد الذي نفي إليه حتى تظهر توبته . وقال مكحول : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون ، وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم .
قوله تعالى : { ذلك } ، الذي ذكرت من الحد .
{ 33 ، 34 } { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
المحاربون لله ولرسوله ، هم الذين بارزوه بالعداوة ، وأفسدوا في الأرض بالكفر والقتل ، وأخذ الأموال ، وإخافة السبل .
والمشهور أن هذه الآية الكريمة في أحكام قطاع الطريق ، الذين يعرضون للناس في القرى والبوادي ، فيغصبونهم أموالهم ، ويقتلونهم ، ويخيفونهم ، فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها ، فتنقطع بذلك .
فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم -عند إقامة الحد عليهم- أن يفعل بهم واحد من هذه الأمور .
واختلف المفسرون : هل ذلك على التخيير ، وأن كل قاطع طريق يفعل به الإمام أو نائبه ما رآه المصلحة من هذه الأمور المذكورة ؟ وهذا ظاهر اللفظ ، أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم ، فكل جريمة لها قسط يقابلها ، كما تدل عليه الآية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله تعالى . وأنهم إن قتلوا وأخذوا مالًا تحتم قتلُهم وصلبهم ، حتى يشتهروا ويختزوا ويرتدع غيرهم .
وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا تحتم قتلهم فقط . وإن أخذوا مالا ولم يقتلوا تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، اليد اليمنى والرجل اليسرى . وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا ، ولا أخذوا مالا ، نفوا من الأرض ، فلا يتركون يأوون في بلد حتى تظهر توبتهم . وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وكثير من الأئمة ، على اختلاف في بعض التفاصيل .
{ ذَلِكَ } النكال { لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } أي : فضيحة وعار { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب ، موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة ، وأن فاعله محارب لله ولرسوله .
وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة ، علم أن تطهير الأرض من المفسدين ، وتأمين السبل والطرق ، عن القتل ، وأخذ الأموال ، وإخافة الناس ، من أعظم الحسنات وأجل الطاعات ، وأنه إصلاح في الأرض ، كما أن ضده إفساد في الأرض .
وبعد أن ذكر سبحانه - تغليظ الإثم في قتل النفس بغير حق ، وتعظيم الأجر لمن عمل على إحيائها ، أتبع ذلك ببيان الفساد المبيح للقتل ، فقال - تعالى - :
{ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ . . . }
قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية ؟ فقال بعضهم : نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فعرف الله نبيه الحكم فيهم . . .
وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين .
وقال آخرون : بل نزلت في قوم من عرينة وعكل - بضم العين وسكون الكاف - ارتدوا عن الإِسلام ، وحاربوا الله ورسوله ، فعن أنس أن رهطا من عكل وعربنة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا أهل ضرع ، ولم نكن أهل ريف ، وإنا استوخمنا المدينة - أي : وجدناها رديئة المناخ - فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع - أي : بعدد من الإِبل ومعهم راع - ، وأمرهم أن يخرجوا بها ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فقتلوا الراعي ، واستقاوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم ، فأتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا ، فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم .
ثم قال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم : لمعرفة حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين .
والذي يراه ابن جرير أولى هو الذي تطمئن إليه النفس ، فإن الآية الكريمة تبين عقاب قطاع الطرق الذين يحاربون النظام القائم للأمة ، ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسلب والسرقة سواء أكانوا من المشركين أم من غيرهم ؟ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقوله : سبحانه { يُحَارِبُونَ } من المحاربة . والمحاربة : مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم ، والأصل في معنىكلمة الحرب : الأخذ والسلب . يقال : حربه ، إذا سلبه ماله ، والمراد بالمحاربة هنا : قطع الطريق على الآمنين بالاعتداء عليهم بالقتل أو السلب أو ما يشبه ذلك في الجرائم التي حرمها الله - تعالى - :
ومحاربة الناس لله - تعالى - على وجه الحقيقة غير ممكنة ، لتنزهه - سبحانه - عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تُقَاتلَ ؛ ولأن ، المحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين في وجهة ومكان والله منزه عن ذلك ، فيكون التعبير مجازاً عن المخالفة لشرع الله ، وارتكاب ما يغضبه أو المعنى : يحاربون وأولياء رسوله وهم المسلمون ؛ فيكون الكلام على تقدير حذف مضاف .
وصدر - سبحانه - الآية بلفظ ( إنما ) المفيد للمقصر ، لتأكيد العقاب ، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه ، لأنه حد من حدود الله - تعالى - على تلك الجريمة النكراء التي تقوض بنيان الجماعة ، وتهدم أمنها ، وتزلزل كيانها ، وتبعث الرعب والخوف في نفوس أفرادها .
وعبر - سبحانه - عمن يحارب أولياءه وشرعه بأنهم محاربون له ولرسوله لزيادة التشنيع عليهم ، ولبيان أن كل من يهدد أمن المسلمين ويعتدي عليهم يكون محارباً لله ولرسوله ومستحقاً لغضبه - سبحانه - وعقوبته .
وقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } معطوف على قوله { يُحَارِبُونَ } .
وقوله : { وَيَسْعَوْنَ } من السعي وهو الحركة السريعة المستمرة .
والفساد : ضد الصلاح . فكل ما خرج عن وضعه الذي يكون به صالحاً نافعاً ، يقال إنه قد فسد . والسعي في الأرض بالفساد المراد به هنا : قطع الطريق على الناس ، وتهديد أمنهم ، والتعرض لهم بالأذى في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم .
وقوله : ( فسادا ) مفعول لأجله أي : يحاربون ويسعون لأجل الفساد . أو هو حال من فاعل ( يسعود ) بتأويله بمفسدين ، أو ذوي فساد .
وقوله : { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا } ألخ . خبر عن المبتدأ هو ( جزاء ) .
والمعنى : { إِنَّمَا جَزَآءُ } أي : عقاب { الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } أي : يخالفونهما ويعصون أمرهما ، ويعتدون على أوليائهما { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } أي : يعملون بسرعة ونشاط في الأرض لا من أجل الإِصلاح وإنما من أجل الإِفساد فيها عن طريق تهديد أمن الناس ، والاعتداء على أموالهم وأنفسهم . جزاء هؤلاء { أَن يقتلوا } والتقتيل هو القتل ، إلا أنه ذكر بصيغة التضعيف لإفادة الشدة في القتل وعدم التهاون في إيقاعه عليهم لكونه حق الشرع وللإِشارة إلى الاستمرار في قتلهم ما داموا مستمرين في الجريمة فكلما كان منهم قتل قتلوا .
{ أَوْ يصلبوا } والتصليب : وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على مكان مرتفع بحيث يرى بعد القتل ليكون عبرة لغيره ، وردعاً له عن ارتكاب المعاصي والجرائم . قالوا : ويكون الصلب لمدة ثلاثة أيام وقيل : لمدة يوم واحد . وجيء هنا أيضاً بصيغة التضعيف لإِفادة التشديد في تنفيذ هذه العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها .
{ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } أي : تقطع مختلفة ، فقوله { مِّنْ ٍخِلافٍ } حال في أيديهم وأرجلهم أي : لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد بل تكونان من جانبين مختلفين .
{ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } أي ، يطردوا من الأرض التي اتفقوا فيها على الإِجرام إلى أرض أخرى ليتشتت شملهم ، ويتفرق جمعهم ، مع مراقبتهم والتضييق عليهم . وفسر بعضهم النفي بالحبس في السجون ، لأن فيه إبعادا لهم وتفريقا لجمعهم .
واسم الإِشارة في قوله - تعالى - { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } يعود إلى العقاب المذكور في الآية من القتل والصلب . . إلخ .
والخزي : الذي والفضيحة أي ذلك العقاب المذكور { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } أي : ذل وفضيحة وعار عليهم ، لأنه كشف أمرهم ، وهتك سترهم ، وجعلهم عبرة لغيرهم .
هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة قد بينه - سبحانه - بقوله : { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : ولهم في الآخرة عذاب عظيم في شدته وآلامه جزاء ما اقترفوا من ج . رائم
وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ؛ والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال ؟
وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ؛ وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة ؛ وتفظيع جريمة إزهاق الروح . . ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة . . ذلك كله ضروري كأمن الأفراد . . بل أشد ضرورة ؛ لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ؛ فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ؛ كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء . . وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية . ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء . . فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ؛ ما لم يثب إلى الرشد والصواب . .
فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة :
( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، أن يقتلوا أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . . . ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . .
وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام ؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام . ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقاعليها . سواء خارج المصر أو داخلة . وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه .
وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ؛ المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة [ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ] لا يحاربون الحاكم وحده ، ولا يحاربون الناس وحدهم . إنما هم يحاربون الله ورسوله . حينما يحاربون شريعته ، ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ، ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة . كما أنهم بحربهم لله ورسوله ، وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها ، يسعون في الأرض فسادا . . فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله ، وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة . .
إنهم يحاربون الله ورسوله . . وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم . فهم قطعا لا يحاربون الله - سبحانه - بالسيف ، وقد لا يحاربون شخص رسول الله - بعد اختياره الرفيق الأعلى - ولكن الحرب لله ورسوله متحققة ، بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله .
كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة ، هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله ، في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله . . وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة ، في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف . .
نقرر هذا بوضوح ، لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان ، كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة ، ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم ، ولو زعموا أنهم مسلمون . . كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ؛ بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله . .
إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام ، أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله . . وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله ؟ إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ؛ فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه ؟ !
. . إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة ، التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ؛ وتروع عباد الله في دار الإسلام ، وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم . . أن يقتلوا تقتيلا عاديا . أو أن يصلبوا حتى يموتوا [ وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب ] أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى . . من خلاف . .
ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص : إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات ، أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين .
ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت . فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع ، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي :
وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه ، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف . وأما إذا أخاف السبيل فقط ، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه . . ومعنى التخيير عندمالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام . فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه ، لأن القطع لا يدفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف . وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير .
ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه ، وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل . لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة ، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ؛ ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار . وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام .
كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض . . هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته ؟ أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه . أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ؟
ونحن نختار النفي من أرض الجريمة ، إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ؛ جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم . حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته ، أو بعزله عن عصابته !
( ذلك لهم خزي في الدنيا . . ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .
فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى . وهذا كذلك تغليظ للعقوبة ، وتبشيع للجريمة . . ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة . وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة . فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره . . وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به . .