اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض .

وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ } : مُبْتَدأ وخبره " أنْ يُقَتَّلُوا " وما عطف عليه ، أي : إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ ، أو التَّصلِيب ، أو النَّفْي .

وقوله : " يُحارِبُون اللَّه " ، أي : يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور .

وقال الزَّمَخْشَريُّ{[11606]} : " يُحَارِبُون رسُول الله ، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه " .

يعني : أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 9 ] .

فإن قيل : المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة ، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه ، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ممكِنَةٌ فلفظ { يحاربون اللَّه ورسولَهُ } يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً ، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه ، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة ، وذلك مُمْتَنِعٌ .

فالجواب : إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ .

والتقدير : إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه ، ويَسْعَوْن في الأرْض فَسَاداً كذا وكذا ، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها ، وهي المُخالفةُ مَجازاً ، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة . قوله : " فساداً " في نصبه ثلاثة أوجُه :

أحدها : أنه مَفْعُول من أجله{[11607]} ، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد ، وشروط النَّصْبِ موجُودة .

الثاني : أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ : ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً ، ثلاثة مذاهب [ مشهورة ]{[11608]} تقدَّم تَحْرِيرها .

الثالث : أنه منْصُوب على المصدر ، أي : إنَّه نَوْع من العامل قبله ، فإنَّ معنى " يَسْعَوْن " هنا : يُفْسدُون وفي الحَقِيقة ، ف " فسادٌ " قائم مقام الإفساد [ والتقدير : ]{[11609]} ، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً .

و " فِي الأرْضِ " الظّاهر : أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه ، كقوله : { سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ } [ البقرة : 205 ] .

وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له . وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس " فساداً " ، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا " فَسَاداً " حالاً .

أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه ، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل .

وقرأ الجمهور " أنْ يُقَتَّلُوا " {[11610]} وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل ، ومعناه : التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال .

قرأ الحسن{[11611]} وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا .

قوله تعالى " مِن خِلافٍ " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من " أيْدِيهِمْ " و " أرْجُلِهِمْ " أي : [ تقطع مختلف ]{[11612]} بمعنى : أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى ، ورجله اليُسرى .

والنَّفي : الطَّرْد .

و " الأرض " المراد بها هاهُنَا ما يُريدُون الإقامَة بها ، أو يُراد من أرْضِهِمْ .

و " ألْ " عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ .

فصل

قال الضَّحَّاك : نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب ، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا{[11613]} .

وقال الكَلْبِي : نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر ، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي ، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه ، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام ، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شَاهِداً ، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم ، فنزل جبريل بالقِصَّة{[11614]} .

وقال سعيد بن جبير : نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل{[11615]} أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة ، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا ، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل ، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم ، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها ، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا{[11616]} .

قال أبو قِلابَة : هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا ، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً ، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -{[11617]} فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم ، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال : إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى : ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة .

وقال بعضهم{[11618]} : حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة ، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود .

قال أبو الزَّنَاد : ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود ، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد{[11619]} ، وعن قتادةُ قال : بَلَغَنَا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم [ بعد ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة ، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس : إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله ]{[11620]} عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء ؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة{[11621]} .

وقال الليث بن سَعْد : نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم{[11622]} وقال : إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة ، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة{[11623]} .

وقيل : نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان ، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض ، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا .

وقيل : نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [ وهذا قول ]{[11624]} أكثر الفقهاء{[11625]} قالوا : والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه :

أحدها : أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة ، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام ، والآية تَقْتَضِي ذلك .

وثانيها : لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ ، ولا على النَّفْي ، والآية تقتضي ذلك .

وثالثها : أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة ؛ لقوله تعالى { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } .

والمرتَدُّ يسقط حَدُّه{[11626]} بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها ، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين .

ورابعها : أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين .

وخامسها : أنَّ قوله تعالى : { الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً } يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً ، ولا يُقالَ : الآية نزلت في الكُفَّار ؛ لأن العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب ، فإن قيل : المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم{[11627]} ودِمَائهم ، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق ، وأما إن حصلت في الأمْصار ، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ : هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق ، هذا الحدُّ عليهم ، قالوا : وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة ، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها ، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [ وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد : إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود ]{[11628]} لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة ، فصار في حكم السَّارِق .

فصل

قوله تعالى في الآية { أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } . اختلف العلماء{[11629]} في لفظة " أوْ " : فقال ابن عبَّاس{[11630]} في رواية الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومُجاهد ، والنَّخْعِي : إنَّها للتَّخْيير ، والمعنى : أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين إن شاء قَتَلَ ، وإن شَاء صَلَب ، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل ، وإن شاء نَفَى ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عطاء{[11631]} : " أوْ " هاهنا [ لَيْسَت ]{[11632]} للتَّخيير ، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا .

قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال : قُتِلُوا وصُلِبُوا ، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال ، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا ؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم ، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا ؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ ، وإذا أخافُوا السَّبيل ، ولم يأخُذُوا مالاً ؛ نُفُوا من الأرض{[11633]} ، وهذا قول قتادة [ والشَّافعي ، والأوْزَاعِيِّ ]{[11634]} ، وأصحاب الرَّأي . واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب ، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ : أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب ، وقيل : يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً ، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد{[11635]} ، وقيل : يُصْلَب ثلاثة أيَّام ، ثم ينزل ثم يُقْتَل ، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً ، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم .

واختُلِفَ في النَّفْي : فقال سعيد بن جُبَيْر ، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز : أنَّ الإمام يطلبه ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه{[11636]} ، وقيل : يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود ، وهو قول ابن عبَّاس ، واللَّيث بن سَعْد ، وبه قال الشَّافعي ، وإسْحَاق{[11637]} .

وقال أبو حنيفة : النَّفْي هو : الحبس ، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة .

قالوا : لأن قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة ، [ وإمَّا ]{[11638]} أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم ، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة ، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا : والمَحْبُوس : قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها ، ولا يرى أحَداً من أحبابه ، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه : [ الطويل ]

خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا *** فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا{[11639]}

وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله : [ الطويل ]

إذا [ جَاءنَا ]{[11640]} السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ *** عَجِبْنَا وَقُلْنَا : جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا{[11641]}

قوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } .

" ذلك " إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم ، وهو مُبْتَدأ .

وقوله : " لَهُمْ خِزْيٌ " فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكُون " لهم " {[11642]} خبراً مُتقدِّماً ، و " خِزْي " مُبْتَدأ مُؤخَّر ، و " فِي الدُّنْيا " صِفَةٌ له ، فيتعلق بمحذُوف ، أو يتعلَّق بنفس " خِزْي " على أنَّه ظَرْفيَّة ، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر ل " ذَلِكَ " .

الثاني : أن يكون " خِزْي " خبراً ل " ذلك " ، و " لهم " مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من " خِزْي " ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له ، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً .

وأمَّا " في الدُّنْيَا " فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً ل " خزي " أو مُتعلِّقاً به ، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به " لَهُم " .

الثالث : أن يكون [ " لَهُمْ " ]{[11643]} خبراً ل " ذلك " و " خِزْي " فاعل ، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ ، و " فِي الدُّنْيَا " على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة .

فصل في شبهة للمعتزلة وردها

المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا : الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب ، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم .

قالت المُعْتَزِلَةُ{[11644]} : دلَّت الآية [ على القَطْعِ بوَعِيد ]{[11645]} الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم ؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم ؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدَّيْن ، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق ، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط .

والجوابُ : لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة ، وإذا جازَ لكم [ أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة ]{[11646]} لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط ، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو ، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ الدَّليل [ على أنَّه - تعالى - ]{[11647]} يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا ؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] .


[11606]:ينظر: الكشاف 1/628.
[11607]:في أ: لأجله.
[11608]:سقط في أ.
[11609]:سقط في أ.
[11610]:سقط في أ.
[11611]:وقرأ بها مجاهد. ينظر: المحرر الوجيز 2/185، والبحر المحيط 3/485، والدر المصون 2/517، والشواذ 38.
[11612]:في أ: تقطع مختلفة.
[11613]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(9/547) عن الضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/494)، وزاد نسبته لعبد بن حميد وينظر: تفسير البغوي 2/32.
[11614]:ينظر: تفسير الرازي 11/169.
[11615]:وزعم ابن التين للداودي أن "عرينة" هم عكل، وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان: عكل من عدنان، وعرينة من قحطان، وعكل بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرباب، و"عرينة" بالعين والراء المهملتين والنون مصغرا حي من قضاعة وحي من بجيلة، والمراد هنا الثاني كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي، وكذا رواه الطبري من وجه آخر عن أنس، ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة بإسناد ساقط أنهم من بني فزارة. وهو غلط لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلا، وذكر إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها المصنف بعد الحديبية وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما.
[11616]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(9/548) عن سعيد بن جبير وينظر: تفسير البغوي 2/32، ومن طريق أنس أخرجه البخاري 12/109، في الحدود باب المحاربين من أهل الكفر(6803)، ومسلم 3/1296 كتاب القسامة باب حكم المحاربين (9/1671). قال ابن بطال: ذهب البخاري إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة، وساق حديث العرنيين وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيين وفي آخره قال: "بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية" ووقه مثله في حديث أبي هريرة، وممن قال ذلك الحسن وعطاء والضحاك والزهري قال: وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين، ثم قال: ليس هذا منافيا للقول الأول وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد. قال ابن حجر بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة، فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر ومن حملها على المعصية عمم، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي أن ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين، وأما الكفار فقد نزل فيهم: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خففت عنه القتل، وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل وما نقله المصنف عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله الكفر به وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصة العرنيين قال: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله}، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال لهم من عكل. قلت: قد ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة، فقد وجد التصريح الذي نفاه ابن بطال، والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة، فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: أحدهما: وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمن قتل قتل ومن أخذ المال قطع ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وجعلوا "أو" للتنويع، وقال مالك: بل هي للتخيير الإمام في المحاربة المسلم بين الأمور الثلاثة، ورجح الطبري الأول، واختلفوا في المراد بالنفي في الآية: فقال مالك والشافعي يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، زاد مالك فيحبس فيها. وعن أبي حنيفة بل يحبس في بلده، وتعقب بأن الاستمرار في البلد ولو كان مع الحبس إقامة فهو ضد النفي فإن حقيقة النفي الإخراج من البلد، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} وحجة أبي حنيفة أنه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى، فانفصل عنه مالك بأنه يحبس بها، وقال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا.
[11617]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/492) عن أبي قلابة وعزاه للحافظ عبد الغني في "إيضاح الإشكال".
[11618]:ينظر: تفسير البغوي 2/32.
[11619]:أخرجه البيهقي في "سننه"(8/283) عن أبي الزناد وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/491) وعزاه للبيهقي وحده وينظر: البغوي 2/32.
[11620]:سقط في أ.
[11621]:أخرجه مسلم (5/101، 103) والبيهقي (8/62) عن أنس بن مالك وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/492) وزاد نسبته للنحاس في ناسخه.
[11622]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(9/550) عن الوليد بن مسلم عن الليث بن سعد قال: سمعت محمد بن عجلان يقول:...فذكره. والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/492-493).
[11623]:تقدم.
[11624]:سقط في أ.
[11625]:ينظر: تفسير البغوي 2/33، تفسير الرازي 11/169.
[11626]:في ب: حقه.
[11627]:في أ: أزواجهم وفي.
[11628]:سقط في أ.
[11629]:ينظر: تفسير الرازي 11/170.
[11630]:ينظر: تفسير البغوي 2/33، والرازي 11/170.
[11631]:ينظر: تفسير البغوي 2/33.
[11632]:سقط في أ.
[11633]:أخرجه الشافعي في "مسنده"(1531) والبيهقي (8/283) عن ابن عباس موقوفا.
[11634]:في ب: والأوزاعي والشافعي وأحمد.
[11635]:ينظر: تفسير البغوي 2/33.
[11636]:أخرجه الطبري في تفسيره"(9/554) عن سعيد بن جبير والبغوي 2/33.
[11637]:ينظر: تفسير البغوي 2/33.
[11638]:سقط في أ.
[11639]:هذا البيت والبيت الذي بعده من قصيدة واحدة، ويرويان: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة *** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ينظر: القرطبي 6/100، وروح المعاني 3/119. كما يرويان: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السجان يوما لحاجة *** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ينظر: مشكل القرآن لابن قتيبة ص 400، والفخر الرازي 12/171، وعيون الأخبار 1/81-82. وأمالي الشريف المرتضى 1/101، والمحاسن والأضداد ص 38.
[11640]:سقط في أ.
[11641]:ينظر: تخريج البيت السابق.
[11642]:في أ: خزي.
[11643]:سقط في أ.
[11644]:ينظر: تفسير الرازي 11/171.
[11645]:في ب: بوعيد القطع على.
[11646]:في أ: لهذا الحكم مقدم التوبة.
[11647]:سقط في أ.