لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ } : مُبْتَدأ وخبره " أنْ يُقَتَّلُوا " وما عطف عليه ، أي : إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ ، أو التَّصلِيب ، أو النَّفْي .
وقوله : " يُحارِبُون اللَّه " ، أي : يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور .
وقال الزَّمَخْشَريُّ{[11606]} : " يُحَارِبُون رسُول الله ، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه " .
يعني : أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 9 ] .
فإن قيل : المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة ، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه ، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ممكِنَةٌ فلفظ { يحاربون اللَّه ورسولَهُ } يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً ، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه ، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة ، وذلك مُمْتَنِعٌ .
فالجواب : إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ .
والتقدير : إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه ، ويَسْعَوْن في الأرْض فَسَاداً كذا وكذا ، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها ، وهي المُخالفةُ مَجازاً ، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة . قوله : " فساداً " في نصبه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَفْعُول من أجله{[11607]} ، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد ، وشروط النَّصْبِ موجُودة .
الثاني : أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ : ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً ، ثلاثة مذاهب [ مشهورة ]{[11608]} تقدَّم تَحْرِيرها .
الثالث : أنه منْصُوب على المصدر ، أي : إنَّه نَوْع من العامل قبله ، فإنَّ معنى " يَسْعَوْن " هنا : يُفْسدُون وفي الحَقِيقة ، ف " فسادٌ " قائم مقام الإفساد [ والتقدير : ]{[11609]} ، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً .
و " فِي الأرْضِ " الظّاهر : أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه ، كقوله : { سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ } [ البقرة : 205 ] .
وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له . وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس " فساداً " ، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا " فَسَاداً " حالاً .
أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه ، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل .
وقرأ الجمهور " أنْ يُقَتَّلُوا " {[11610]} وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل ، ومعناه : التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال .
قرأ الحسن{[11611]} وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا .
قوله تعالى " مِن خِلافٍ " في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من " أيْدِيهِمْ " و " أرْجُلِهِمْ " أي : [ تقطع مختلف ]{[11612]} بمعنى : أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى ، ورجله اليُسرى .
و " الأرض " المراد بها هاهُنَا ما يُريدُون الإقامَة بها ، أو يُراد من أرْضِهِمْ .
و " ألْ " عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ .
قال الضَّحَّاك : نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب ، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا{[11613]} .
وقال الكَلْبِي : نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر ، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي ، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه ، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام ، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شَاهِداً ، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم ، فنزل جبريل بالقِصَّة{[11614]} .
وقال سعيد بن جبير : نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل{[11615]} أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة ، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا ، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل ، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم ، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها ، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا{[11616]} .
قال أبو قِلابَة : هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا ، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً ، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -{[11617]} فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم ، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال : إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى : ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة .
وقال بعضهم{[11618]} : حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة ، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود .
قال أبو الزَّنَاد : ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود ، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد{[11619]} ، وعن قتادةُ قال : بَلَغَنَا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم [ بعد ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة ، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس : إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله ]{[11620]} عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء ؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة{[11621]} .
وقال الليث بن سَعْد : نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم{[11622]} وقال : إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة ، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة{[11623]} .
وقيل : نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان ، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض ، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا .
وقيل : نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [ وهذا قول ]{[11624]} أكثر الفقهاء{[11625]} قالوا : والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه :
أحدها : أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة ، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام ، والآية تَقْتَضِي ذلك .
وثانيها : لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ ، ولا على النَّفْي ، والآية تقتضي ذلك .
وثالثها : أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة ؛ لقوله تعالى { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } .
والمرتَدُّ يسقط حَدُّه{[11626]} بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها ، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين .
ورابعها : أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين .
وخامسها : أنَّ قوله تعالى : { الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً } يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً ، ولا يُقالَ : الآية نزلت في الكُفَّار ؛ لأن العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب ، فإن قيل : المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم{[11627]} ودِمَائهم ، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق ، وأما إن حصلت في الأمْصار ، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ : هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق ، هذا الحدُّ عليهم ، قالوا : وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة ، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها ، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [ وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد : إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود ]{[11628]} لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة ، فصار في حكم السَّارِق .
قوله تعالى في الآية { أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } . اختلف العلماء{[11629]} في لفظة " أوْ " : فقال ابن عبَّاس{[11630]} في رواية الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومُجاهد ، والنَّخْعِي : إنَّها للتَّخْيير ، والمعنى : أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين إن شاء قَتَلَ ، وإن شَاء صَلَب ، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل ، وإن شاء نَفَى ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عطاء{[11631]} : " أوْ " هاهنا [ لَيْسَت ]{[11632]} للتَّخيير ، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا .
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال : قُتِلُوا وصُلِبُوا ، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال ، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا ؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم ، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا ؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ ، وإذا أخافُوا السَّبيل ، ولم يأخُذُوا مالاً ؛ نُفُوا من الأرض{[11633]} ، وهذا قول قتادة [ والشَّافعي ، والأوْزَاعِيِّ ]{[11634]} ، وأصحاب الرَّأي . واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب ، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ : أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب ، وقيل : يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً ، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد{[11635]} ، وقيل : يُصْلَب ثلاثة أيَّام ، ثم ينزل ثم يُقْتَل ، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً ، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم .
واختُلِفَ في النَّفْي : فقال سعيد بن جُبَيْر ، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز : أنَّ الإمام يطلبه ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه{[11636]} ، وقيل : يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود ، وهو قول ابن عبَّاس ، واللَّيث بن سَعْد ، وبه قال الشَّافعي ، وإسْحَاق{[11637]} .
وقال أبو حنيفة : النَّفْي هو : الحبس ، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة .
قالوا : لأن قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة ، [ وإمَّا ]{[11638]} أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم ، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة ، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا : والمَحْبُوس : قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها ، ولا يرى أحَداً من أحبابه ، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه : [ الطويل ]
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا *** فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا{[11639]}
وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله : [ الطويل ]
إذا [ جَاءنَا ]{[11640]} السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ *** عَجِبْنَا وَقُلْنَا : جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا{[11641]}
قوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } .
" ذلك " إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم ، وهو مُبْتَدأ .
وقوله : " لَهُمْ خِزْيٌ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكُون " لهم " {[11642]} خبراً مُتقدِّماً ، و " خِزْي " مُبْتَدأ مُؤخَّر ، و " فِي الدُّنْيا " صِفَةٌ له ، فيتعلق بمحذُوف ، أو يتعلَّق بنفس " خِزْي " على أنَّه ظَرْفيَّة ، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر ل " ذَلِكَ " .
الثاني : أن يكون " خِزْي " خبراً ل " ذلك " ، و " لهم " مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من " خِزْي " ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له ، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً .
وأمَّا " في الدُّنْيَا " فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً ل " خزي " أو مُتعلِّقاً به ، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به " لَهُم " .
الثالث : أن يكون [ " لَهُمْ " ]{[11643]} خبراً ل " ذلك " و " خِزْي " فاعل ، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ ، و " فِي الدُّنْيَا " على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة .
المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا : الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب ، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم .
قالت المُعْتَزِلَةُ{[11644]} : دلَّت الآية [ على القَطْعِ بوَعِيد ]{[11645]} الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم ؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم ؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدَّيْن ، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق ، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط .
والجوابُ : لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة ، وإذا جازَ لكم [ أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة ]{[11646]} لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط ، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو ، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ الدَّليل [ على أنَّه - تعالى - ]{[11647]} يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا ؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] .