الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

قوله سبحانه : { إِنَّمَا جزاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ . . . } [ المائدة :33 ] . روى أنس بن مالك وغيره : أن الآية نزلَتْ في قومٍ مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَسْلَمُوا ، ثم إنهم مَرِضُوا ، واستوخموا المدينَةَ ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، أنْ يَكُونُوا فِي لقَاح الصَّدَقَةِ ، وَقَالَ : ( اشربوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ) ، فخرَجُوا فِيهَا ، فَلَمَّا صَحُّوا ، قَتَلُوا الرَّاعِيَ ، واستاقوا الإبِلَ ، فَبَلَغَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَبَرُهُمْ ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ ، فَأُخِذُوا ، قَالَ جَمِيعُ الرُّوَاةِ : فَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ ، ويروى ، وَسَمَلَ ، وَتَرَكَهُمْ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ ، يَسْتَسْقُونَ ، فَلاَ يُسْقَوْنَ ، فقيل : إن هذه الآية ناسخةٌ لفعْله صلى الله عليه وسلم بالعُرَنِيِّينَ ، ووقَف الأمْر على هذه الحدودِ .

وقال جماعةٌ : أنها غير ناسخةٍ لذلك الفعْل ، لأن العرنيين مرتدُّون ، لا سيَّما ، وفي بعض الطُّرُق ، أنهم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ ، وقالوا : هذه الآيةُ هي في المحارِبِ المُؤْمِنِ .

قال مالك : المُحَارِبُ عندنا : مَنْ حَمَلَ على الناس السلاحَ فِي مِصْرٍ أو بَرِّيَّةٍ ، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم ، دون نَائِرَةٍ ، ولا دَخلٍ ، ولا عداوةٍ ، وبهذا القولِ قال جماعةٌ من أهل العِلْمِ ، قالوا : والإمامُ مخيَّرٌ فيه بأن يعاقبه بما رأى مِنْ هذه العقوبات ، فأما قَتْلُ المحارِبِ ، فبالسَّيْف ضربةً للعنُق ، وأما صَلْبه ، فبعد القتْلِ عند جماعة ، وقال جماعة : بل يُصْلَبُ حيًّا ، ويُقْتلُ بالطعن على الخَشَبة ، وروي هذا عن مالك ، وهو الأظهر من الآيةِ ، وهو الأنكى في النكال ، وأما القَطْع ، فاليد اليمنى من الرّسْغ ، والرِّجْل الشِّمال من المَفْصِلِ .

وقوله سبحانه : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } الظاهر : أن الأرض في هذه الآية هي أرضُ النازلة ، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابُوا فيها الذُّنُوب ، ومنه حديثُ الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرْضِ المقدَّسة ، وينبغي للإمام ، إنْ كان هذا المحارِبُ المنفيُّ مخُوفَ الجانِبِ ، يظنُّ به أن يعود إلى حِرابةٍ وإفسادٍ أنْ يسجنه في البلد الذي يغرب إلَيْهِ ، وإنْ كان غير مخُوفِ الجانبِ ، ترك مساحاً ، وهذا هو صريحُ مذهب مالك .

وقوله تعالى : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } الآية ، إشارة إلى هذه الحدود التي تُوقَعُ بهم ، فيحتمل الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سَلِمَ في الدنيا ، وبالجملة فهم في المشيئة .