تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

وقوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } الآية ، قال بعضهم : الآية نزلت في أهل الكفر وبيان الحكم فيهم ، وهو قول الحسن وأبي بكر الأصم ، وقالا : لأن الله عز وجل ذكر محاربة الله ورسوله ، وذكر السعي في الأرض بالفساد . وكل كافر قد حارب الله ورسوله ، وذكر السعي في الأرض بالفساد ، فللإمام أن يقتلهم بأي أنواع القتل شاء ما دام الحرب في ما بينهم قائما . فإذا أثخنوا في الأرض بترك ذلك يمن عليهم إن شاء . وأما المسلم إذا قطع الطريق ، فإنه لا يقال : إنه حارب الله ورسوله . فدل أنها نزلت في أهل الكفر للكفر لا لقطع الطريق .

وقال آخرون : نزلت في المشركين إذا قطعوا الطريق على الناس ، وأخافوهم «روي عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام ، فقطع عليهم ، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد فيهم : أن من قتل ، ولم يأخذ المال ، قتل ، ومن أخذ المال ، ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف ، ومن جاء مسلما هدم بالإسلام ما كان في الشرك » [ القرطبي 3/266 ] فدل حديث ابن عباس رضي الله عنهما على أن الآية نزلت في الموادعين غير المحاربين .

وروي عن أنس [ أنه ] قال : «إن أناسا من عكل أو عرينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه الجهد ، فبعث معهم بلقاح وراع ، وقال لهم : اشربوا ألبانها ، وتداووا بأبوالها ، فلما أن صحوا [ قتلوا ] راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل ، وارتدوا عن الإسلام ، فبعث في آثارهم ، فأتى بهم بعد ما ترجل بهم النهار ، فأمر بهم ، فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، وقطعت ألسنتهم ، وتركوا بالمكان حتى ماتوا ، فنزلت الآية » . [ البخاري : 233 ] .

وروي عن علي رضي الله عنه ما يخالف هذا ؛ روي أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، وتاب من قبل أن يقدر عيه ، فكتب علي بن أبي طالب إلى عامله بالبصرة أن حارثة [ ابن بدر ] قد تاب قبل أن يقدر عليه ، فلا تتعرض له إلا بالخير .

ألا ترى أن حارثة [ بن بدر ] قد تاب ، أطلق فيه أنه حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا ؟ فهذا يدل على أن الحكم الذي أجري على قطاع الطرق الكفرة يجري ذلك الحكم في المسلمين إذا كان منهم ما كان من المشركين مع قطع الطريق على الناس وإخافته عليهم . وقد يتوهم أن الآية نزلت في أهل الحرب ، وقد أبيح لنا قتل من ظفرنا به منهم كيف شئنا ، وإن لم يفسدوا في الأرض ، ولم يقطعوا الطريق .

وهذا يدل [ على ] أن الآية نزلت بالحكم في أهل الكفرة وأهل الإسلام جميعا إذا سعوا في الأرض بالفساد .

ومن الدليل على ذلك أن الله تعالى قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] وأجمعوا أن الكافر إذا قتل المسلم ، وأظهر في الأرض الفساد ، فقدرنا عليه ، وأسرناه ، ثم أسلم ، أنه يزول عنه القتل والقطع والصلب . فدل ذلك على أن الآية نزلت بالحكم في المسلمين لأنه يختلف حكمه إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم ، أو بعد قدرتنا عليهم .

فأما الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل بالعرنيين من نحو ابن سيرين وغيره فالواجب على من ادعى أن الآية نزلت في العرنيين دعواه . وكان أصحابنا ، رحمهم الله ، يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ويرون أن يؤخذ المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه بما أصاب من دم ومال على سبيل القصاص ، ولا يصلب ، و لا تقطع يده وجله في ما أصاب من مال . فكأنهم ذهبوا إلى أن يزال الحد الذي لله على المحارب بتوبته قبل أن يقدر عليه ، وهو ما كان إلى الإمام إقامته ، ولا أمر للولي فيه .

وأما الحقوق التي هي للعباد فإن التوبة لا تعمل في إبطالها ، ولكل ذي حق أن يأخذ حقه ، لا حق للإمام لأن الحق صار للولي دون الإمام .

وفي قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } دلالة على أن السارق إذا رد السرقة أن يقدر عليه أن لا قطع عليه . وكذلك روى بعض المتقدمين أنهم قالوا ليس على تائب قطع . ودل قوله تعالى : { ويسعون في الأرض فسادا } على أن السارق في المصر ليلا ونهارا لا يكون محاربا ، وإنما هو سارق تقطع يده دون رجله لأنه ذكر السعي في الأرض بالفساد ، والسارق في المصر لا يقال : سعى في الأرض . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } [ النساء : 101 ] لم يرد الضرب في المصر ، ولكن أراد الأسفار . فعلى ذلك الأول .

وأما الكلام في القتل والصلب والقطع فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : إذا حارب ، وقتل ، وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف ، وصلب . فإن قتل ، ولم يأخذ المال ، قيل : وإن أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف . وتأويل الآية : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية على أن الواجب على المحارب من العقوبة له على قدر جنايته ، ويزاد في عقوبته بقدر زيادته في جرمه .

وتأول غيره الآية على أنها نزلت في المحارب الذي يصيب المال أو النفس . وإذا أصاب الأمرين كان للإمام أن يقتله كيف شاء ؛ إن شاء قتله بالسيف قتلا ، وإن شاء قطع يده ورجله ، ثم يتركه حتى يموت ، وإن شاء صلبه حيا . /128-ب/ وإن أبطأ عليه الموت طعن بالرماح حتى يموت . وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه . وأما يوسف ومحمد ، رحمهما الله ، فقالا : إذا صلب لم تقطع [ يده ورجله ] من خلاف ، وجعلا عقوبته مختلفة على قدر جنايته . فإن قيل : فما معنى التخيير فيه ؟ قيل معناه ، والله أعلم : أن يقتل بالسيف ، أو بالصلب أو يقتل بقطع اليد والرجل .

وأصله أن حرف التخيير إذا كان في متفق الأسباب يخرج مخرج التخيير من نحو التخيير في كفارة اليمين وكفارة الظهار وكفارة المتأذى لأن سبب وجوبه واحد . وإذا كان في مختلف الأسباب فيخرج مخرج بيان الحكم للكل في نفسه كقوله تعالى : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا } [ الكهف : 86 ] لا يحتمل التخيير . ولكنه على بيان الحكم لكل في نفسه لأن سبب وجوبه مختلف ؛ فتأويله : إما أن تعذب من ظلم ، [ وإما أن ] تتخذ الحسن في من آمن بالله . ألا ترى أنه قال : { أما من ظلم فسوف نعذبه } { وأما من ءامن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى } ؟ [ الكهف : 87 و88 ] وقول من جعل الحكم في من جمع القتل وقطع الطريق أقرب إلى التأويل ، والله أعلم ، ممن لم يجمع لأنه قال عز وجل : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية فمن حارب ، وأفسد في الأرض فقد أتى بالأمرين لأن محاربته أن يقتل ، وإفساده في الأرض [ أن ] يقطع الطريق . فإذا جمع هو بين الأمرين يجمع بين عقوبتين . وأصله أن أمر قطاع الطرق محمول على فضل تغليظ من نحو ما يجمع بين قطع اليد والرجل في أخذ المال ، وذلك لا يجمع في أخذ المال في المصر ، ومن نحو الصلب . وذلك لم يجعل في غيره من القتل في المصر ، فدل أنه محمول على فضل تغليظ ، فجاز أن يجمع ما ذكرنا .

وقوله تعالى : { أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا } قال بعضهم : { أو ينفوا } على إسقاط الألف ، ويكون في القتل والصلب نفيه إذا قتل ، وأخذ المال . وقال بعضهم : نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه .

وعن الحسن [ أنه ] قال : يطلب حتى يخرج من أرض الإسلام ؛ وذلك إلى الإمام . وأصله ما ذكرنا أنه إذا قدر عليه ، وقد قتل ، وأخذ المال ، يقتل ، وفي القتل نفيه . وإذا لم يأخذ حبس إن قدر عليه ، وفي الحبس نفيه ، وإن يقدر عليه يطلب حتى يبرح الطريق ، والله أعلم .

وقول ابن عبيد حين قال : إنه يصلب بعد القتل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة ، [ فيقال له : المثلة ] يراد بها على ما قال محمد بن الحسن ، رحمه الله تعالى : إن الصلب جعل عقوبته ، والميت لا يعاقب ، ولو جاز [ له أن يقول ] يصلب بعد القتل جاز لغيره أن يقول : تقطع يده ورجله بعد القتل ، فذلك بعيد .