الأولى : اختلف الناس في سبب نزول{[5504]} هذه الآية ، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين ، روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك : أن قوما من عكل{[5505]} - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا{[5506]} المدينة ، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا ، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم ، فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر{[5507]} أعينهم وألقوا في الحرة{[5508]} يستسقون فلا يسقون . قال أبو قلابة : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله . وفي رواية : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم{[5509]} ؛ وفي رواية : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة{[5510]} فأتي به قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية . وفي رواية قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض{[5511]} بفيه عطشا حتى ماتوا . وفي البخاري قال جرير بن عبدالله في حديثه : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا{[5512]} على بلادهم ، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال جرير : فكانوا يقولون الماء ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( النار ) . وقد حكى أهل التواريخ والسير : أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه ، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات ، وأدخل المدينة ميتا . وكان اسمه يسار وكان نوبيا . وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة . وفي بعض الروايات عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم . وروي عن ابن عباس والضحاك : أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض . وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : " غفور رحيم " نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ{[5513]} منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه . وممن قال : إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن ، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف{[5514]} " [ الأنفال : 38 ] ، وقوله عليه الصلاة{[5515]} والسلام : ( الإسلام يهدم ما قبله ) أخرجه مسلم ، والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك . وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد . قال ابن المنذر : قول مالك صحيح ، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول : وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك ، وهو قوله جل ثناؤه : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم ، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام . وحكى الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين ، فوقف الأمر على هذه الحدود . وروى محمد بن سيرين قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ، يعني حديث أنس ، ذكره أبو داود . وقال قوم منهم الليث بن سعد : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ{[5516]} ؛ إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد . قال أبو الزناد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك ، فأنزل الله تعالى في ذلك " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا " الآية . أخرجه أبو داود . قال أبو الزناد : فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد . وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل ؛ لأن ذلك وقع في مرتين ، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال : إنما سمل النبي{[5517]} صلى الله عليه وسلم أن أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة ، فكان هذا قصاصا ، وهذه الآية في المحارب المؤمن . قلت : وهذا قول حسن ، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي ؛ ولذلك قال الله تعالى : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسق قبل القدرة . والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم ، ولا يصلب أيضا ، فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد . وقال تعالى في حق الكفار : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " [ الأنفال : 38 ] . وقال في المحاربين : " إلا الذين تابوا " الآية ؛ وهذا بين . وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب ، قال الله تعالى : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " {[5518]} [ البقرة : 194 ] فمثلوا فمثل بهم ، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل ، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا ، والله أعلم . وحكى الطبري عن السدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك ، فنزلت الآية ناهية عن ذلك ، وهذا ضعيف جدا ، فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل ، وفي صحيح البخاري : فأمر بمسامير فأحميت لهم . ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود . وفي قوله تعالى : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " استعارة ومجاز ؛ إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال ، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد . والمعنى : يحاربون أولياء الله ، فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم ، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [ البقرة : 245 ] حثا على الاستعطاف عليهم ، ومثله في صحيح السنة ( استطعمتك فلم تطعمني ) . الحديث أخرجه مسلم ، وقد تقدم في " البقرة " {[5519]} .
الثانية : واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة ، فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة{[5520]} ولا ذحل{[5521]} ولا عداوة . قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة ، وقالت طائفة : حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور . قال ابن المنذر : كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة ، والكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة . وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر . هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان . والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله ، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا .
الثالثة : واختلفوا في حكم المحارب ؛ فقالت طائفة : يقام عليه بقدر فعله ، فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب ، فإذا قتل ولم يأخذ المال ، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي . قاله ابن عباس . وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم . وقال أبو يوسف : إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة . قال الليث : بالحربة مصلوبا . وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه ، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه{[5522]} ؛ قال أبو يوسف : القتل يأتي على كل شيء . ونحوه قول الأوزاعي . وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي ؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة ، وإذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب ، وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام ؛ قال : وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس . وقال أحمد : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي . وقال قوم : لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب . وحكي عن الشافعي : أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة . وقال أبو ثور : الإمام مخير على ظاهر الآية ، وكذلك قال مالك ، وهو مروي عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال : الإمام مخير في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية . قال ابن عباس : ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار ، وهذا القول أشعر{[5523]} بظاهر الآية ، فإن أهل القول الأول الذين قالوا " أو " للترتيب وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون : يقتل ويصلب ، ويقول بعضهم : يصلب ويقتل ؛ ويقول بعضهم : تقطع يده ورجله وينفى ، وليس كذلك الآية ولا معنى " أو " في اللغة ، قاله النحاس . واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال : " من أخاف السبيل وأخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه " . قال ابن عطية : وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل ، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب{[5524]} والعقاب استحسانا .
الرابعة : قوله تعالى : " أو ينفوا من الأرض " اختلف في معناه ، فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه ، عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري . حكاه الرماني في كتابه . وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ، ويطلبون لتقام عليهم الحدود . وقال الليث بن سعد والزهري أيضا . وقال مالك أيضا : ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني . وقال مالك أيضا{[5525]} والكوفيون : نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها ، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره ، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجَّانُ يوما لحاجة *** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم ، والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب ، الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ، ومنه الحديث{[5526]} ( الذي ناء بصدره ونحو الأرض المقدسة ) . وينبغي الإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية{[5527]} سرح . قال ابن عطية : وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسن حيث يغرب ، وهذا على الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو الواضح{[5528]} ؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية ، وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإن تاب وفهمت حاله سرح .
الخامسة : قوله تعالى : " أو ينفوا من الأرض " النفي أصله الإهلاك ، ومنه الإثبات والنفي ، فالنفي الإهلاك بالإعدام ، ومنه النفاية لردي المتاع ، ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو . قال الراجز{[5529]} :
كأن مَتْنَيْهِ{[5530]} من النَّفِيِّ *** مواقعُ الطَّيْرِ على الصُّفِيِّ
السادسة : قال ابن خويز منداد : ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق . وقد قيل : يراعى في ذلك النصاب ربع دينار . قال ابن العربي : قال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق . وقال مالك : يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح ، فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار ، ولم يوقت في الحرابة شيئا ، بل ذكر جزاء المحارب ، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة ، ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه ، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس . وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر ، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب . قال القاضي ابن العربي : كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق ، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم ، وأصحابه يأخذون مال الرجل ، حكمت فيهم بحكم المحاربين ، فافهموا هذا من أصل الدين ، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين . قلت : اليفع{[5531]} أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ ، والحضيض الحفرة في أسفل الوادي . كذا قال أهل اللغة .
السابعة : ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل . وللشافعي قولان : أحدهما : أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص ، وهذا ضعيف ؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل ، وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال . قال الله تعالى : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا " فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد ، ولم يخص شريفا من وضيع ، ولا رفيعا من دنيء .
الثامنة : وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع . وقال الشافعي : لا قتل إلا من قتل ، وهذا أيضا ضعيف ، فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم ، وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة ، فالمحارب أولى .
التاسعة : وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم ، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وهم عن أذى المسلمين ، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا ، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته ؛ ولا يدفف{[5532]} منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل ، فإن أخذوا وجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته ، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال ، وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ، ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة ، فإن تابوا وجاؤوا تائبين وهي :
العاشرة : لم يكن للإمام عليهم سبيل ، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين ، فاقتص منهم من النفس والجراح ، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك ، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين ، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي . وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا ؛ لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم ، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه . وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده ، وأما ما استهلكه فلا يطالب به ، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه ، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا . قال ابن خويز منداد : واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال . هل يتبع دينا بما أخذ ، أو يسقط عنه كما سقط عن السارق ؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء .
الحادية عشرة : وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب ، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة ، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء ، ولا يجوز عفو ولي الدم ، والقائم بذلك الإمام ، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى .
قلت : فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها ، واجتلبنا دررها ، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي :
الثانية عشرة : تفسير مجاهد لها ، المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة ، وليس بصحيح ، فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده ، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا ، ويرجم إن كان ثيبا محصنا . وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك ، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج ، فهذا أفحش المحاربة ، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى : " ويسعون في الأرض فسادا " .
الثالثة عشرة : قال علماؤنا : ويناشد اللص بالله تعالى ، فإن كف ترك وإن أبى قوتل ، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر . روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي ؟ قال : ( فانشد بالله ) قال : فإن أبوا علي . قال : ( فانشد بالله ) قال : فإن أبوا علي قال : ( فانشد بالله ) قال : فإن أبوا علي قال : ( فقاتل فإن قتلت ففي الجنة ، وإن قتلت ففي النار ) وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : ( فلا تعطه مالك ) قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : ( فقاتله ) قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : ( فأنت شهيد ) قال : فإن قتلته ؟ قال : ( هو في النار ) . قال ابن المنذر : وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم ، هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان ، وبهذا يقول عوام أهل العلم : إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما ؛ للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت ، ولا حالا دون حال إلا السلطان ، فإن جماعة أهل الحديث لا يحاربه ولا يخرج عليه ؛ للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم ، من الجور والظلم ، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة .
قلت : وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون ؟ وهذا الخلاف مبني على أصل ، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر ؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال . والله أعلم .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : " ذلك لهم خزي في الدنيا " لشناعة المحاربة وعظم ضررها ، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر ؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس ؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات ، وركنها وعمادها الضرب في الأرض ؛ كما قال عز وجل : " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " {[5533]} [ المزمل : 20 ] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر ، واحتاجوا إلى لزوم البيوت ، فانسد باب التجارة عليهم ، وانقطعت أكسابهم ، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة ، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم ، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم ، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة . وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له{[5534]} كفارة ) والله أعلم . ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره . ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم ، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب ، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة ، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى : " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء{[5535]} " [ النساء : 116 ] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية{[5536]} .