غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

27

ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معاً من لفظ واحد لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط لا يمكن حملها على حقيقة المحاربة . ويحتمل أن يقال : إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف . والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما جاء في الخبر " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة " . { ويسعون في الأرض فساداً } نصب على الحال أي مفسدين ، أو على العلة أي للفساد ، أو على المصدر الخاص نحو : رجع القهقرى . لأنّ الفساد نوع من السعي . عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فكانت الآية ناسخة لتلك السنة . وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاَ للسنة الناسخة . وقيل : نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي - وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد - فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم . وقيل : إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل . وقيل : في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء . قالوا : ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض ، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي ، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها ، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه ، ولأن اللفظ عام .

وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلماً مكلفاً أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب ، وكذا المعترض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه . واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق ، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص . وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق . وللعلماء في لفظ " أو " في الآية خلاف . فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى . وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات ، فمن اقتصر على القتل قتل ، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب ، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض ، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون . والذي يدل على ضعف القول الأول أنه ليس للإمام الاقتصار على النفي بالإجماع ولأن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وهذا لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي . فتقدير الآية أن يقتلوا إن قتلوا ، أو يصلبوا إن جمعوا بين القتل والأخذ ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على الأخذ . والتشديد في هذه الأفعال للتكثير . { أو ينفوا من الأرض } إن أخافوا السبيل والقياس الجلي أيضاً يؤيد هذا التفسير لأنّ القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق بالتحتم وعدم جواز العفو . وأخذ المال يتعلق به قطع اليد فغلظ في حقه بقطع الطرفين { من خلاف } أي يده اليمنى ورجله اليسرى ، فإن عاد فالباقيتان . قيل : وإنما قطع هكذا لئلاّ يفوت جنس المنفعة . قلت : هذا أيضاً من باب التغليظ لأنّ اليد اليمنى أعون في العمل والرجل اليسرى أعون في الركوب . وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب ، لأنّ بقاءه مصلوباً في ممر الطريق أشهر وأزجر . وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي . قال أبو حنيفة : إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب . وعند الشافعي لا بد من الصلب لأجل النص . وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفناً ثلاثة أيام . وقيل : يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك . وعند أبي حنيفة يصلب حياً ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعاً ، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن ، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة .

أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين : أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد ، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبداً . فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي . والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال ، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم ، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس . وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق : النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن ، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير ، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة ، فلم يبق إلاّ أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة *** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

{ ذلك لهم خزي } ذل وفضيحة { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } استدل المعتزل بها على القطع بوعيد الفساق وعلى الإحباط .

/خ40