{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
أمر الله تعالى المؤمنين ، بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية { بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } فالصبر هو : حبس النفس وكفها عما تكره ، فهو ثلاثة أقسام : صبرها على طاعة الله حتى تؤديها ، وعن معصية الله حتى تتركها ، وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها ، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر ، فلا سبيل لغير الصابر ، أن يدرك مطلوبه ، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة ، فإنها مفتقرة أشد الافتقار ، إلى تحمل الصبر ، وتجرع المرارة الشاقة ، فإذا لازم صاحبها الصبر ، فاز بالنجاح ، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها ، لم يدرك شيئا ، وحصل على الحرمان ، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد ، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم ، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى ، واستعانة بالله على العصمة منها ، فإنها من الفتن الكبار . وكذلك البلاء الشاق ، خصوصا إن استمر ، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية ، ويوجد مقتضاها ، وهو التسخط ، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله ، والتوكل عليه ، واللجأ إليه ، والافتقار على الدوام .
فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد ، بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله ، فلهذا أمر الله تعالى به ، وأخبر أنه { مَعَ الصَّابِرِينَ } أي : مع من كان الصبر لهم خلقا ، وصفة ، وملكة بمعونته وتوفيقه ، وتسديده ، فهانت عليهم بذلك ، المشاق والمكاره ، وسهل عليهم كل عظيم ، وزالت عنهم كل صعوبة ، وهذه معية خاصة ، تقتضي محبته ومعونته ، ونصره وقربه ، وهذه [ منقبة عظيمة ]{[109]} للصابرين ، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله ، لكفى بها فضلا وشرفا ، وأما المعية العامة ، فهي معية العلم والقدرة ، كما في قوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وهذه عامة للخلق .
وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين ، ونور المؤمنين ، وهي الصلة بين العبد وبين ربه ، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة ، مجتمعا فيها ما يلزم فيها ، وما يسن ، وحصل فيها حضور القلب ، الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها ، استشعر دخوله على ربه ، ووقوفه بين يديه ، موقف العبد الخادم المتأدب ، مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله ، مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة ، من أكبر المعونة على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة ، يوجب للعبد في قلبه ، وصفا ، وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه ، واجتناب نواهيه ، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء .
وبعد أن أمر - سبحانه - عباده بذكره وشكره ، وجه نداء إليهم بين لهم فيه ما يعينهم على ذلك ، كما بين لهم منزلة الشهداء ، وعاقبة الصابرين على البلاء فقال - تعالى - :
{ يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا . . . }
المعنى : يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه ، وعلى فعل الطاعات وترك المعاصي ، وعلى احتمال المكاره التي تجري بها الأقدار ، استعينوا على كل ذلك بالصبر الجميل وبالصلاة المصحوبة بالخشوع والإِخلاص والتذلل للخالق - عز وجل - فإن الإِيمان الذي خالط قلوبكم يستدعى منكم القيام بالمصاعب ، واحتمال المكاره ، ولقاء الأذى من عدو أو سفيه ، ولن تستطيعوا أن تتغلبوا على كل ذلك إلا بالصبر والصلاة .
ولقد استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه الرباني ، وتأسى به أصحابه في ذلك ، فقد أخرج الإِمام أحمد - بسنده - عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا حزبه أمر صلى " .
أي : إذا شق عليه أمر لجأ إلى الصلاة لله رب العالمين .
وافتتحت الآية الكريمة بالنداء ، لأن فيه إشعاراً بخبر مهم عظيم ، فإن من شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدم قبلها ما يهئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها ولعل مما يشهد بأفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم ، أن الله - تعالى - قد أمر بني إسرائيل في السورة نفسها بالاستعانة بالصبر والصلاة فقال : { استعينوا بالصبر والصلاة } إلا أنه - سبحانه - قال لهم : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } ليشعرهم بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال ، ولم يقل - سبحانه - للمؤمنين ذلك في الآية التي معنا ، للإِيماء إلى أنهم قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم ، وأنهم هم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك .
وقوله - تعالى - : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } .
ولم يقل " معكم " ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم .
قال الأستاذ الإِمام : إن من سنة الله : - تعالى - أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار ، وهذا إنما يكون بالصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه ، لأنه - سبحانه - جعل هذا الصبر سبباً للظفر ، إذ هو يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح ، ومن لم يصبر فليس الله معه ، لأنه تنكب سنته ، ولن يثبت فيبلغ غايته .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ }
وهذه الآية حضّ من الله تعالى ذكره على طاعته واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال ، فقال : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي والانصراف عما أنسخه منها إلى الذي أحدثه لكم من فرائضي وأنقلكم إليه من أحكامي ، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه ، والتحوّل عنه بعد تحويلي إياكم عنه ، وإن لحقكم في ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل ، أو مشقة على أبدانكم في قيامكم به أو نقص في أموالكم ، وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي ، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومشقته عليكم ، واحتمال عنائه وثقله ، ثم بالفزع منكم فيما ينوبكم من مفظعات الأمور إلى الصلاة لي ، فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي ، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبلي وتدركون حاجاتكم عندي ، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيّ ، أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم حتى يظفروا بما طلبوا وأمّلوا قِبَلي وقد بينت معنى الصبر والصلاة فيما مضى قبل فكرهنا إعادته . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَاسْتَعِينُوا بالصّبْرِ والصّلاةِ يقول : استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله ، واعلموا أنهما من طاعة الله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بالصّبْرِ والصّلاةِ اعلموا أنهما عون على طاعة الله .
وأما قوله : إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ فإن تأويله : فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله ، كقول القائل : افعل يا فلان كذا وأنا معك ، يعني إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه .
هذه جمل معترضة بين قوله تعالى : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 150 ] وما اتصل به من تعليله بقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } [ البقرة : 150 ] وما عطف عليه من قوله { ولأتم نعمتي عليكم } [ البقرة : 150 ] إلى قوله : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] وبين قوله : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } [ البقرة : 177 ] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شأن تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجةً } المتصل بقوله : { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 150 ] .
وهو اعتراض مُطْنِبٌ ابتُدىء به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكراً له على خَولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطاً وشهداء على الناس ، وتفضيلِهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة ، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك ، وأمْرِهم بالاستخفافِ بالظالمين وأَنْ لا يخشوهم ، وتبْشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم ، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولاً منهم ، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر ، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال ، من أجل ذلك كله أَمرهم هنا بالصبر والصلاة ، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال ، فناسب تعقيبها بها ، وأيضاً فإن ما ذكر من قوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجةً } مشعر بأن أناساً متصدُّون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم ، فأُمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة . وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } إلى قوله : { شاكر عليم } [ البقرة : 158 ] فسيأتي تبييننا لموقعها .
وافتُتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعاراً بخبرٍ مهم عظيم ، فإن شأن الأَخبار العظيمة التي تَهُول المخاطبَ أن يقدَّم قبلَها ما يهيءُ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفْجَأَها .
وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيُعقب بالنَّدْب إلى عمل عظيم وبلْوى شديدة ، وذلك تهيئةٌ للجهاد ، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى ، فإن ابتداء المغازي كان قُبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بُوَاطَ والعُشَيْرَةِ وبدْرٍ الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال ، وكانت بَدْرٌ الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين .
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناساً قُتلوا قبل تحويل القبلة ، أنه توهم من أحد الرواة عن البراء ، فإن أَوَّلَ قَتْل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين ، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال « لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس » الحديث فلم يقل : ( الذين قتلوا ) . فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب ، وتحبيبٌ للشهادة إليهم . ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله : { لمن يقتل في سبيل الله المشعر بأنه أمرٌ مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بُعَيد نزول هذه الآية .
وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلوات وإنها لكبيرة } [ البقرة : 45 ] الآية إلاَّ أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل : { إنها لكبيرة } علماً منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك { إلاَّ على الخاشعين } ولم يذكر مثل هذا هنا ، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يُسر لهم ما يصعب على غيرهم ، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك ، وزاد هنا فقال : { إن الله مع الصابرين } فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين .
وقوله { إن الله مع الصابرين } تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلوات الخمس في مواقيتها نحو الكعبة، حين عيرتهم اليهود بترك قبلتهم.
{إن الله مع الصابرين}: على الفرائض والصلاة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه الآية حضّ من الله تعالى ذكره على طاعته واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، فقال: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي والانصراف عما أنسخه منها إلى الذي أحدثه لكم من فرائضي وأنقلكم إليه من أحكامي، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه، والتحوّل عنه بعد تحويلي إياكم عنه، وإن لحقكم في ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل، أو مشقة على أبدانكم في قيامكم به أو نقص في أموالكم، وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومشقته عليكم، واحتمال عنائه وثقله، ثم بالفزع منكم فيما ينوبكم من مفظعات الأمور إلى الصلاة لي، فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبلي وتدركون حاجاتكم عندي، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيّ، أنصرهم وأرعاهم وأكلأهم حتى يظفروا بما طلبوا وأمّلوا قِبَلي وقد بينت معنى الصبر والصلاة فيما مضى قبل فكرهنا إعادته... استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله... اعلموا أنهما عون على طاعة الله.
"إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ": فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله، كقول القائل: افعل يا فلان كذا وأنا معك، يعني إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: الثبات على أوامر الله تعالى.
والثاني: الصيام المقصود به وجه الله تعالى.
وأما الاستعانة بالصلاة فتحتمل وجهين:
والثاني: الاستعانة بما يُتلى في الصلاة ليعرف به فضل الطاعة فيكون عوناً على امتثال الأوامر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الصبر هو حبس النفس عما تدعوا إليه من الأمور، والصابر هو الحابس نفسه عما تدعوا إليه مما لا يجوز له. وهو صفة مدح. ووجه الاستعانة بالصبر أن في توطين النفس على الأمور تسهيلا لها. واستشعار الصبر إنما هو توطين النفس.
ووجه الاستعانة بالصلاة ما فيها من الذكر لله، واستشعار الخشوع له، وتلاوة القرآن وما فيه من الوعظ، والتخويف، والوعد، والوعيد، والجنة، والنار، وما فيه من البيان الذي يوجب الهدى ويكشف العمى. كل ذلك داع إلى طاعة الله، وزاجر عن معاصيه، فمن هاهنا كان فيه المعونة على ما فيه المشقة من الطاعة.
وأما الاستعانة فهي الازدياد في القوة مثل من يريد أن يحمل مئة رطل فلا يتهيأ له ذلك فإذا استعان بزيادة قوة تأتى ذلك، وكذلك إن عاونه عليه غيره وعلى ذلك السبب والآلة، لأنه بمنزلة الزيادة في القوة.
(إن الله مع الصابرين) أي معهم بالمعونة، والنصرة، كما تقول: إذا كان السلطان معك، فلا تنال من لقيت...
والذي يستعان عليه بالصبر والصلاة. قيل فيه قولان:
أحدهما: طاعة الله، كأنه قال استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره فيها.
والثاني: على الجهاد في سبيل الله، لأعدائه...
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله: {فاذكروني} جميع العبادات، وبقوله: {واشكروا لي} ما يتصل بالشكر، أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال: {استعينوا بالصبر والصلاة} وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيراً، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث:"عجبًا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له". وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45. وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى.
والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود. كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم، إن شاء الله...
{إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي مع المصلين، ولما كان الصبر مستلزما لتحصيل جميع العبادات ومنها الصلاة استغنى به عنها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ختم الآيات الآمرة باستقبال البيت في الصلاة بالأمر بالشكر ومجانبة الكفر وكان ذلك رأس العبادة وفاعله شديد الافتقار إلى المعونة التفت إلى قوله تعالى في أم الكتاب: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] فأمرهم بما تضمن ذلك من الصبر والصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] عالماً بأنهم سيمتثلون حيث عصى بنو إسرائيل حين أمرهم بمثل ذلك في أول قصصهم بقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43] إلى أن قال: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45] فكان في ذلك إشارة إلى أنهم هم الخاشعون وحسن موقع هذه الآية كونها بعد أذى أهل الكتاب بنسبتهم لهم إلى بطلان الدين بتغيير الأحكام ونحو ذلك من مُرّ الكلام كما في الآية الأخرى {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186] وكونها عقب الأمر بالذكر والشكر إيماء إلى أن ملاك كل منهما الصبر والصلاة فكأنه قيل: لا تلتفتوا إلى طعن الطاعنين في أمر القبلة فيشغلكم ذلك عن ذكري وشكري بل اصبروا وصلوا إليّ متوجهين إلى القبلة التي أمرتكم بها عالمين أن الصبر والصلاة نعم العون على كل ما ينوب من دين ودنيا، وأرشق من هذا أن يقال: ولما علم من هذه الآيات إعضال ما بينهم وبين السفهاء وأمرهم بالدواء المنجح من الإعراض عنهم والإقبال على ذكره وشكره أتبع ذلك للإشارة إلى أن الأمر يصل إلى أشد مما توهموه فقال: يا أيها الذين آمنوا} مخاطباً لهم على وجه يشمل الكامل صلى الله عليه وسلم ولعله صرف الخطاب عنه لما في السياق مما يحمي عنه صلى الله عليه وسلم مقامه العالي {استعينوا بالصبر} أي على ما تلقون منهم وعلى الإقبال إليّ لأكفيكم كل مهم {والصلاة} فإنها أكبر معين لأنها أجمع العبادات، فمن أقبل بها على مولاه حاطه وكفاه لإعراضه عن كل ما سواه، لأن ذلك شأن كل كبير فيمن أقبل بكليته عليه.
ولما كانت الصلاة لا تقوم إلا بالصبر اقتصر على التعليل به فقال: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {مع الصابرين} أي ومعلوم أن من كان الله سبحانه وتعالى معه فاز. قال الحرالي: وأيسر الصبر صبر النفس عن كسلها بأخذها بالنشاط فيما كلفت به و {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق: 7] و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] فمتى يسر الله سبحانه وتعالى عليها الجد والعزيمة جعل لها فيما كانت تصبر عليه في الابتداء الاستحلاء فيه وخفت عنها وظيفة الصبر، ومتى لم تصبر عن كسلها وعلى جدها تدنست فنالها عقوبات يكون الصبر عليها أشد من الصبر الأول، كما أن من صبر عن حلو الطعام لم يحتج أن يصبر على مر الدواء، فإن تحملت الصبر على عقوبات ضياع الصبر الأول تداركها نجاة من اشتداد العقوبة عليها، وإن لم تتصبر على تلك العقوبات وقعت في مهالك شدائد العذاب فقيل لأهلها {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} [الطور: 16] ثم قال: فبداية الدين صبر وخاتمته يسر، فإن من كان الله سبحانه وتعالى معه رفع عنه مرارة الصبر بوضع حلاوة الصحبة التي تشعر بها كلمة مع -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذهب الذين ينظرون من القران في جمله وآياته مفككة منفصلا بعضها عن بعض التماسا لسبب النزول في كل أية أو جملة أو كلمة، ولا ينظرون إليه في سياق جملة وكمال نظمه إلى أن الأمر بالاستعانة في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} هو الاستعانة على أمر الآخرة والاستعداد لها، وإن المراد بالصبر فيه الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس، واعتمده البيضاوي وغيره، أو على الطاعات وبهذا صرح الجلال، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام، والتحقيق أنه عام في كل عمل نفسي أو بدني أوترك يشق على النفس، كما يدل عليه حذف متعلقه، والمعنى استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكارم وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز وجل وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق وأعمها المصائب المذكورة في الآيات بعده ولاسيما الأعمال العامة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية. وقد بين شيخنا أهم مواضعه التي يدل عليها السياق مع بيان التناسب بين الآيات ووجه الاتصال بما مثاله موضحا: ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة، وتقدم شرح ما دلت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين، وإقامة الحجج على المشاغبين، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين، ومنها إتمام النعمة، والبشارة بالاستيلاء على مكة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميز به المؤمن الصادق من المسلم المنافق، فهي تظهر الثابت على الحق المطمئن به وتفضح المنافق المرائي فيه، بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه، أو انقلابه ناكصا على عقبيه، ثم شبه هذا النعمة التامة بالنعمة الكبرى وهي إرسال الرسول فيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة، وتأكيد أمر القبلة، ما يليق بتلك الحالة وقفى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم للإيذان بأن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء من الناس بصورة النقمة، هو في نفسه أجل منة وأكبر نعمة.
لا جرم أن تلك النعم يجب ذكرها وشكرها للمنعم جل شأنه كانت تقرن بضروب من البلاء، وأنواع من المصائب، أكبرها ما يلاقيه أهل الحق من مقاومة الباطل وأحزابه، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه، أليس من النسب القريب بين الكلام، ومن كمال الإرشاد في هذا المقام، أن يرد بعد الأمر بالشكر، أمر آخر بالصبر، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذلك؟ بلى إن هذه الآيات متصلة بما قبلها، متممة للإرشاد فيها، وقد هدى سبحانه بلطف إلى علاج الداء قبل بيانه، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحق والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم. فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كله، لا أن الآية في الانقطاع إلى العبادة والصبر على الطاعة مطلقا بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله، أو السعي لعياله اعتكافا في المسجد أو انزواء في خلوة عاملا بها.
كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد، وكانت الأمم مناوئة لهم، فالمشركون أخرجوهم من ديارهم وما فتئوا يغيرون عليهم، ويصدون الناس عنهم، ثم كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة أهل الكتاب ومكرهم، ومن مراوغة المنافقين وكيدهم، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كله وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة. أما الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار. وهذا يدل على عظم أمره، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق، إذا لا بد للداعي إلى الحق منه، والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكه الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة. فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها. وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة، أو تأييد فضيلة، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم، لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل بالمقاومة والمحادة التي يعوز فيها الصبر، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره، ومصارعة الشدائد، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر وإن كان في أول الأمر متكلفا، ومتى رسخت الملكة يسمى صحابها صبورا وصبارا.
وليس كل محتمل للمكروه من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية أنه معهم وبشرهم في الآية الآتية، وأثنى عليهم في آيات كثيرة، بل لابد من العمل للحق والثبات فيه كما قدمنا لأن الفضائل لا تتحقق بما يصدر عنها من الأعمال الاختيارية التي هي مناط الجزاء، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ولذلك أمر الله تعالى به، وإنما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحق. وعلى ذلك جرى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عليهم الرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلتهم وضعفهم على جميع الأمم مع قوتها وكثرتها، وإنما كان ذلك بالصبر، لأن الله تعالى جعله سببا للنجاة من الخسر، كما جاء في سورة العصر.
المحتمل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعد صابرا، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدعي الصلاح في هذا الزمان، تراهم أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون، على أن عنوان صلاحهم واستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الأعضاء في الصلاة، وما كان للمصلي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى وهو جل ثناؤه يبرئ المصلين من الجزع الذي هو ضد الصبر بقوله: {إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين} (المعراج: 19-22) الخ، وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في القرآن إذا قال: {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (الأنفال: 45) وقد قرن في الآية التي نفسرها الصلاة بالصبر وجعل الأمرين معا ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد.
ولو كان هؤلاء الأدعياء مصلين لكانوا من الصابرين، وإنما تلك حركات تعودوها فهم يكررونها ساهين عنها، أو يقصدون بها قلوب الناس يبغون عندها المكانة الرفيعة بالدين، لما ترتب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها. فيجب على كل مؤمن أن يعود نفسه احتمال المكاره، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرض له أسبابه، فمن لم يستعن على علمه بالصبر، لا يتم له أمر، ولا يثبت على عمل ولاسيما الأعمال العظيمة فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية. ومن يزعم أنه عاجز عن تحصيل هذه الملكة فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الاستعداد، فهو باحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه، وهو بهذا الإحساس بالعجز قد سجل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل.
وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبر على الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي. وأما الحاجة إلى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون. تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه لله تعالى ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وكمال سلطانه. تلك الصلاة التي قال فيها جل ذكره: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (البقرة: 45) وقال فيها: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (النحل: 90) وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة، التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعودها، والتي نشاهد من المعتادين لها الإصرار على الفواحش والمنكرات، واجتراح الآثام والسيئات، وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين؟ إنما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكر الغافلين، وتنبيه الذاهلين، ودفعا يدفع المصلي إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويسهل عليه عند احتمال كل بلاء، ومقاومة كل عناد، فإنه لا يتصور شيئا يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه، فهو لا يزال يقول: الله أكبر. حتى لا يبقى في نفسه شيء كبير، إلا ما كان مرضيا لله العلي الكبير، الذي يلجأ إليه في الحوادث، ويفزع إليه عند الكوارث.
ثم قال: {إن الله مع الصابرين} ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم، وقالوا إن المعية هنا معية المعونة، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء. وقال الأستاذ الإمام: إن من سنة الله تعالى أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار، وهذا إنما يكون بالصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه بما جعل هذا الصبر سببا للظفر، لأنه يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكب سنته، ولن يثبت فيبلغ غايته.
علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم، وما يقوله لهم الناس في ذلك وما يقول الضعفاء في أنفسهم: كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها: وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته؟ وغير ذلك مما كانوا يسمعون من المنافقين والكافرين، وربما أثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطئوا النصر، فعلمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس، ومقاومة الشبهات والوسواس، فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد تقرير القبلة، وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك.. كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس.. كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم. والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والخوف والجوع، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس، وإقراره في الأرض بين الناس. وربط قلوب هذه الأمة بالله، وتجردها له، ورد الأمور كلها إليه.. كل أولئك في مقابل رضى الله ورحمته وهدايته، وهي وحدها جزاء ضخم للقلب المؤمن، الذي يدرك قيمة هذا الجزاء..
(يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة. إن الله مع الصابرين).. يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرا؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولا بد من الصبر في هذا كله.. لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الاعراض.. وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد. ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع.
ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين. إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة. حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب. حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق.. هنا تبدو قيمة الصلاة.. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود.. ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال:"أرحنا بها يا بلال".. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله. إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر..
إن الله سبحانه حينما انتدب محمدا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا.. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).. فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن.. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان. ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام.. إلى الصبر وإلى الصلاة..
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: (إن الله مع الصابرين).. معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق.. وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا.. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: (إن الله مع الصابرين). والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها:
عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة. فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد: "ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال:"كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيُعقب بالنَّدْب إلى عمل عظيم وبلْوى شديدة، وذلك تهيئةٌ للجهاد، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى، فإن ابتداء المغازي كان قُبيل زمن تحويل القبلة، إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بُوَاطَ والعُشَيْرَةِ وبدْرٍ الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال، وكانت بَدْرٌ الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين...
وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلوات وإنها لكبيرة} [البقرة: 45] الآية إلاَّ أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: {إنها لكبيرة} علماً منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال، وقال هنالك {إلاَّ على الخاشعين} ولم يذكر مثل هذا هنا، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يُسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك، وزاد هنا فقال: {إن الله مع الصابرين} فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
خلافاً لما يتصور بعض النّاس؛ «الصَّبْر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والاستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث. لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.
الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.
الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهيار وترك الجزع والفزع...
[و] قلّما كرر القرآن موضوعاً وأكد عليه كموضوع «الصبر»، ففي سبعين موضعاً قرآنياً تقريباً دار الحديث عن الصبر. بينها عشرة تختص بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
[و] تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم بل أهمها صبرهم واستقامتهم. والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون.
ويمكن القول إن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها...
فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامّين:
الأوّل: الاعتماد على الله، ومظهره الصلاة.
والآخر: الاعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر...