في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (153)

بعد تقرير القبلة ، وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة ، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك . . كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص ، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس . . كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم . والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات ، والخوف والجوع ، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس ، وإقراره في الأرض بين الناس . وربط قلوب هذه الأمة بالله ، وتجردها له ، ورد الأمور كلها إليه . . كل أولئك في مقابل رضى الله ورحمته وهدايته ، وهي وحدها جزاء ضخم للقلب المؤمن ، الذي يدرك قيمة هذا الجزاء . .

( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة . إن الله مع الصابرين ) . .

يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرا ؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع ؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات ؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب ، مجندة القوى ، يقظة للمداخل والمخارج . . ولا بد من الصبر في هذا كله . . لا بد من الصبر على الطاعات ، والصبر عن المعاصي ، والصبر على جهاد المشاقين لله ، والصبر على الكيد بشتى صنوفه ، والصبر على بطء النصر ، والصبر على بعد الشقة ، والصبر على انتفاش الباطل ، والصبر على قلة الناصر ، والصبر على طول الطريق الشائك ، والصبر على التواء النفوس ، وضلال القلوب ، وثقلة العناد ، ومضاضة الاعراض . .

وحين يطول الأمد ، ويشق الجهد ، قد يضعف الصبر ، أو ينفد ، إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثميقرن الصلاة إلى الصبر ؛ فهي المعين الذي لا ينضب ، والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة ، والزاد الذي يزود القلب ؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر ، الرضى والبشاشة ، والطمأنينة ، والثقة ، واليقين .

إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى ، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع ، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود ، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب ، ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا ، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .

هنا تبدو قيمة الصلاة . . إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض . إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة ، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . . ومن هنا كان رسول الله [ ص ] إذا كان في الشدة قال : " أرحنا بها يا بلال " . . ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .

إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة . والعبادة فيه ذات أسرار . ومن أسرارها أنها زاد الطريق . وأنها مدد الروح . وأنها جلاء القلب . وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر . . إن الله سبحانه حينما انتدب محمدا [ ص ] للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له :

( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . . فكان الإعداد للقول الثقيل ، والتكليف الشاق ، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن . . إنها العبادة التي تفتح القلب ، وتوثق الصلة ، وتيسر الأمر ، وتشرق بالنور ، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان .

ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام . . إلى الصبر وإلى الصلاة . .

ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه : ( إن الله مع الصابرين ) . .

معهم ، يؤيدهم ، ويثبتهم ، ويقويهم ، ويؤنسهم ، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم ، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة ، وقوتهم الضعيفة ، إنما يمدهم حين ينفد زادهم ، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب : ( إن الله مع الصابرين ) .

والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها :

عن خباب بن الأرث - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله [ ص ] وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد : " ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه . . والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " . .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : " كأني أنظر إلى رسول الله [ ص ] يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام ، ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .

وعن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي [ ص ] قال : قال رسول الله [ ص ] : " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " .