القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : «وهو » نفسه يقول : والله القاهر فوق عباده . ويعني بقوله : القاهِرُ : المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم . وإنما قال : «فوق عباده » ، لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم ، ومن صفة كلّ قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه .
فمعنى الكلام إذن : والله الغالب عباده ، المذلّلهم ، العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بقهره إياهم ، وهم دونه . وهُوَ الحَكِيمُ يقول : والله الحكيم في علّوه على عباده وقهره إياهم بقدرته وفي سائر تدبيره ، الخبير بمصالح الأشياء ومضارّها ، الذي لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها ، ولا يقع في تدبيره خلل ، ولا يدخل حكمه دخل .
وقوله تعالى : { وهو القاهر } الآية ، أي وهو عز وجل المستولي المقتدر ، و { فوق } نصب على الظرف لا في المكان بل في المعنى الذي تضمنه لفظ القاهر ، كما تقول زيد فوق عمرو في المنزلة ، وحقيقة فوق في الأماكن ، وهي في المعاني مستعارة شبه بها من هو أرفع رتبة في معنى ما ، لما كانت في الأماكن تنبىء حقيقة عن الأرفع{[4847]} وحكى المهدوي : أنها بتقدير الحال ، كأنه قال : وهو القاهر غالباً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يسلم من الاعتراض أيضاً والأول عندي أصوب : و «العباد » بمعنى العبيد وهما جمعان للعبد ، أما أنا نجد ورود لفظة العباد في القرآن وغيره في مواضع تفخيم أو ترفيع أو كرامة ، وورود لفظ العبيد في تحقير أو استضعاف أو قصد ذم ، ألا ترى قول امرىء القيس : [ السريع ]
قولا لدودانَ عبيدِ العَصَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4848]}
ولا يستقيم أن يقال هنا عباد العصا ، وكذلك الذين سموا العباد لا يستقيم أن يقال لهم العبيد لأنهم أفخم من ذلك ، وكذلك قول حمزة رضي الله عنه وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، لا يستقيم فيه عباد{[4849]} .
و { الحكيم } بمعنى المحكم ، و { الخبير } دالة على مبالغة العلم ، وهما وصفان مناسبان لنمط الآية .
هذه الجملة معطوفة على جملة { وإن يمسسك الله بضرّ } [ الأنعام : 17 ] الآية ، والمناسبة بينهما أنّ مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة . فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرّف في أحوال المخلوقات ، وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهراً على أحد أو خبيراً أو عالماً بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه ، ولا جرم أنّ الإله تجب له القدرة والعلم ، وهما جماع صفات الكمال ، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضرّ وإحياء وإماتة ، وهي تعلّقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظراً للعرف ، وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنّها تعلّقات لها ، وهو التحقيق .
ولذلك تتنزّل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأنّ التي قبلها ذكرت كمال تصرّفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم كما قدّمنا ، وهذه الآية أوعت قدرته على كلّ شيء وعلمه بكلّ شيء ، وذلك أصل جميع الفعل والصنع .
والقاهر الغالب المُكرِه الذي لا ينفلت من قدرته من عُدّي إليه فعل القهر .
وقد أفاد تعريف الجزأين القصر ، أي لا قاهر إلاّ هو ، لأنّ قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذاً ، لأنّه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما يدافعها . وممّا يشاهد منها دوماً النوم وكذلك الموتُ . سبحان من قهر العباد بالموت .
و { فوق } ظرف متعلَّق بِ { القاهر } ، وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنَّه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكاً . وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون { وإنّا فوقهم قاهرون } [ الأعراف : 127 ] .
ولا يفهم من ذلك جهة هي في علوّ كما قد يتوهّم ، فلا تعدّ هذه الآية من المتشابهات .
والعباد : هم المخلوقون من العقلاء ، فلا يقال للدوابّ عباد الله ، وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصّه بالمخلوقات ، وخصّ العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك .
ومعنى القهر فوق العباد أنّه خالق ما لا يدخل تحت قُدرهم بحيث يوجدُ ما لا يريدون وجوده كالموت ، ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء ، بحيث إنّ كلّ أحد يجد في نفسه أموراً يستطيع فعلها وأموراً لا يستطيع فعلها وأموراً يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة ، كالمشي لمن خَدِرت رجله ؛ فيعلم كلّ أحد أنّ الله هو خالق القُدر والاستطاعات لأنّه قد يمنعها ، ولأنّه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر ، ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة . وقد خلق الله العناصر والقوى وسلّط بعضها على بعض فلا يستطيع المدافعة إلاّ ما خوّلها الله .
والحكيم : المحكم المتقن للمصنوعات ، فعيل بمعنى مفعل ، وقد تقدّم في قوله : { فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم } في سورة [ البقرة : 209 ] وفي مواضع كثيرة .
والخبير : مبالغة في اسم الفاعل من ( خَبَر ) المتعدّي ، بمعنى ( علم ) ، يقال : خبر الأمر ، إذا علمه وجرّبه . وقد قيل : إنّه مشتقّ من الخَبر لأنّ الشيء إذا علم أمكن الإخبار به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.