غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (18)

12

ثم زاد لهذا المعنى بياناً فقال { وهو القاهر فوق عباده } وهو إشارة إلى كمال القدرة { وهو الحكيم الخبير } وإنه إشارة إلى كمال العلم . فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم ، وكونه خبيراً أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها ، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته ، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها : أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلاً فذلك لا يقوله عاقل ، وإن كان ذاهباً في الأقطار كلها كان متجزئاً . والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نوراً قائماً بذاته غير متناه لا متجزئاً ولا متبعضاً قاهراً لجميع الأنوار غالباً على جميع الأشياء . فلا غاية لجوده ولا نهاية لوجوده . وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى النور { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات . والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان . ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه ، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص ، فيكون الواجب مفتقراً فيكون محدثاً هذا خلف . والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض . ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة ، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجوداً فيها وإلا لزم التغير في ذاته . والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار . ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكاً محيطاً بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم . والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول ، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز ، والفوق ما يلي السماء . أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكاً كسائر الأفلاك ، وأما التحقيق فقد مر . ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده ، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية . فالمناسب أن يراد بالفوق أيضاً فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل . والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس ، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية ، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره ، ومنها أن الآية سيقت رداً على من اتخذ غير الله ولياً وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة . والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره . وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزيه عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلاً لها «وكل ميسر لما خلق له » .

/خ24