البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (18)

القهر : الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار .

{ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته ، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم بل يفسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى و { فوق } حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنا زائدة ، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا حقيقة في المكان ، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز .

فقال بعضهم : هو فوقهم بالإيجاد والإعدام .

وقال بعضهم : هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم .

وقال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله : { وإنا فوقهم قاهرون } انتهى .

والعرب تستعمل { فوق } إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله : { يد الله فوق أيديهم } وقوله : { وفوق كل ذي علم عليم } وقال النابغة الجعدي :

بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤددا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

يريد علو الرتبة والمنزلة .

وقال أبو عبد الله الرازي : صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله : { وهو القاهر فوق عباده } إشارة إلى كمال القدرة { وهو الحكيم الخبير } إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهراً فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده ، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود ، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله : { قل اللهم مالك الملك } الآية .

والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم ، لأن { الخبير } إشارة إلى العلم فيلزم التكرار ؛ انتهى ، وفيه بعض اختصار وتلخيص .

وقيل : { الحكيم } العالم والخبير } أيضاً العالم ذكره تأكيداً و { فوق } منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده ، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة ، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان ، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال : وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء ، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر .

قال ابن عطية : ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم ، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطاً مطولاً ورددنا عليه .