قوله تعالى : { فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو ( ( في شغل ) ) ، بسكون الغين ، والباقون بضمها ، وهما لغتان ، مثل السحت والسحت . واختلفوا في معنى الشغل ، قال ابن عباس : في افتضاض الأبكار ، وقال وكيع بن الجراح : في السماع . وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وعما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم . وقال الحسن : شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب . وقال ابن كيسان : في زيارة بعضهم بعضاً . وقيل : في ضيافة الله تعالى . { فاكهون } قرأ أبو جعفر : ( ( فكهون ) ) حيث كان ، وافقه حفص في المطففين ، وهما لغتان مثل : الحاذر والحذر ، أي : ناعمون . قال مجاهد و الضحاك : معجبون بما هم فيه . وعن ابن عباس قال : فرحون .
وقوله : إنّ أصحَابَ الجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ اختلف أهل التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله جلّ ثناؤه أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة ، فقال بعضهم : ذلك افتضاض العذارَى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شَمِر بن عطية ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : إنّ أصحَابَ الجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قال : شغلهم افتضاض العذارى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس إنّ أصحَابَ الجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قال : افتضاض الأبكار .
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس إنّ أصحَابَ الجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُون قال : افتضاض الأبكار .
حدثني الحسن بن زُرَيْق الطّهَوِيّ ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني الحسين بن عليّ الصّدائي ، قال : حدثنا أبو النضر ، عن الأشجعيّ ، عن وائل بن داود ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : إنّ أصحَابَ الجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قال : في افتضاض العذارَى . وقال آخرون : بل عُنِى بذلك : أنهم في نعمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ أصحَابَ الجَنّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قال : في نعمة .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن أبي سهل ، عن الحسن ، في قول الله : إنّ أصحَابَ الجَنّةِ . . . الاَية ، قال : شَغلَهم النعيمُ عما فيه أهل النار من العذاب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم في شغل عما فيه أهل النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ الجَهْضَمِيّ ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن إسماعيل بن أبي خالد إنّ أصحَابَ الجَنّةِ . . . الاَية ، قال : في شغل عما يلقى أهلُ النار .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جل ثناؤه إنّ أصحَابَ الجَنّةِ وهم أهلها فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ بنعم تأتيهم في شغل ، وذلك الشغل الذي هم فيه نعمة ، وافتضاض أبكار ، ولهو ولذّة ، وشغل عما يَلْقى أهل النار .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : في شُغُلٍ ، فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض البصريين على اختلاف عنه : «فِي شُغْلٍ » بضم الشين وتسكين الغين . وقد رُوي عن أبي عمرو الضمّ في الشين والتسكين في الغين ، والفتح في الشين والغين جميعا في شغل . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة وعامة قرّاء أهل الكوفة فِي شُغُلٍ بضم الشين والغين .
والصواب في ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين ، أو بضم الشين وسكون الغين ، بأيّ ذلك قرأه القارىء فهو مصيب ، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في قرّاء الأمصار مع تقارب معنييهما . وأما قراءته بفتح الشين والغين ، فغير جائزة عندي ، لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله : فاكِهُونَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار فاكِهُونَ بالألف . وذُكر عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤه : «فَكِهُونَ » بغير ألف .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بالألف ، لأن ذلك هو القراءة المعروفة .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فَرِحون . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ يقول : فرحون .
وقال آخرون : معناه : عجبون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فاكِهُونَ قال : عجبون .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَكِهُونَ قال : عَجِبون .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك ، فقال بعض البصريين : منهم الفكه الذي يتفكّه . وقال : تقول العرب للرجل الذي يتفكّه بالطعام أو بالفاكهة ، أو بأعراض الناس : إن فلانا لفكِه بأعراض الناس ، قال : ومن قرأها فاكِهُونَ جعله كثير الفواكه صاحب فاكهة ، واستشهد لقوله ذلك ببيت الحُطَيئة :
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أنّكَ *** لابنٌ بالصّيْفِ تامِرْ
أي عنده لبن كثير ، وتمرٌ كثير ، وكذلك عاسل ، ولاحم ، وشاحم . وقال بعض الكوفيين : ذلك بمنزلة حاذرون وحذرون ، وهذا القول الثاني أشبه بالكلمة .
{ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } متلذذون في النعمة من الفكاهة ، وفي تنكير { شغل } وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " في شغل " بالسكون ، ويعقوب في رواية " فكهون " للمبالغة وهما خبران ل { إن } ، ويجوز أن يكون في { شغل } صلة { لفاكهون } ، وقرىء " فكهون " بالضم وهو لغة كنطس ونطس " وفاكهين " و " فكهين " على الحال من المستكهن في الظرف ، و{ شغل } بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات .
هذا إخبار من الله عز وجل عن حال أهل الجنة بعقب ذكر أهوال يوم القيامة وحالة الكفار ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وطلحة وخالد بن إلياس «في شُغْل » بضم الشين وسكون الغين ، وقرأ الباقون «في شُغُل » بالضم فيهما وهي قراءة أهل المدينة والكوفة ، وقرأ مجاهد وأبو عمرو أيضاً بالفتح فيهما ، وقرأ ابن هبيرة على المنبر «في شَغْل » بفتح الشين وسكون الغين وهي كلها بمعنى واحد ، واختلف الناس في تعيين هذا الشغل ، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب : في افتضاض الأبكار ، وحكى النقاش عن ابن عباس سماع الأوتار ، وقال مجاهد معناه نعيم قد شغلهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو القول الصحيح وتعيين شيء دون شيء لا قياس له ، ولما كان النعيم نوعاً واحداً هو نعيم وحده فقال { في شغل } ولو اختلف لقال في أشغال ، وحكى الثعلبي عن طاوس أنه قال : لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما همهم ما شغلوا به ، قال الثعلبي : وسئل بعض الحكماء عن قوله عليه السلام «أكثر أهل الجنة البله »{[9797]} فقال : لأنهم شغلوا بالنعيم عن المنعم ، وقرأ جمهور الناس «فاكهون » معناه أصحاب فاكهة كما تقول لابن وتامر وشاحم ولاحم ، وقرأ أبو رجاء ومجاهد ونافع أيضاً وأبو جعفر «فكهون » ومعناه طربون وفرحون مأخوذ من الفكاهة أي لا همّ لهم ، وقرأ طلحة والأعمش وفرقة «فاكهين » جعلت الخبر في الظرف الذي هو قوله { في شغل } ونصب «فاكهين » على الحال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.