فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡيَوۡمَ فِي شُغُلٖ فَٰكِهُونَ} (55)

ولما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين ، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ زيادة لحسرتهم ، وتكميلا لجزعهم ، وتتميما لما نزل بهم من البلاء . وما شاهدوه من الشقاء ، فإذا رأوا ما أعد الله لهم من العذاب وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم بلغ ذلك من قلوبهم مبلغا عظيما ، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها فقال : { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ } لما هم فيه من اللذات التي هي ما لا عن رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، عن الاهتمام بأمر الكفار ومصيرهم إلى النار ، وإن كانوا من قراباتهم ، والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه ، لكونه أهم عنده من الكل ، وإما لإيجابه كمال المسرة والبهجة ، أو كمال المساءة والغم ، والمراد هنا هو الأول وما فيه من التنكير والإبهام للإيذان بارتفاعه عن رتبة البيان .

وقال قتادة ومجاهد : شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى وبه قال ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ، وعن ابن عمر : ( أن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء ) وقد روي نحوه مرفوعا{[1404]} ، وعن ابن عباس أيضا قال في ضرب الأوتار ، وقال أبو حاتم : هذا لعله خطأ من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار .

وقال وكيع : شغلهم بالسماع ، وقال ابن كيسان بزيادة بعضهم بعضا ، وقيل : شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله الجبار ، قيل : شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق أو عن أهاليهم في النار ، لا يهمهم أمرهم ، ولا يبالون بهم كيلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم ، والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية .

وأما أن المراد به افتضاض الأبكار أو السماع أو ضرب الأوتار أو التزاور أو ضيافة الجبار كما روي كل واحد منها عن واحد من أكابر السلف فليس مرادهم بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط ، بل بيان أنه من جملة أشغالهم وتخصيص كل منهم من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه قرئ : شغل بضمتين وبضم الشين وسكون الغين وهما لغتان كما قال الفراء ، وقرئ : بفتحتين وبفتح الشين وسكون الغين .

{ فَاكِهُونَ } وقرئ فاكهين وفكهون قال الفراء : هما لغتان كالفارة والفرة والحاذر والذر ، وقال الكسائي وأبو عبيدة : الفاكه والفاكهة مثل تامر ، ولابن ، والفكه والمتفكه المتنعم .

وقال قتادة : الفكهون المعجبون ، وقال أبو زيد : يقال : رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكا ، وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة ، وقال السدي كما قال الكسائي ، وقال ابن عباس : فاكهون فرحون . وقيل : ناعمون متلذذون في النعمة من الفكاهة وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة وفسرها زاده بطيب العيش والنشاط .


[1404]:رواه ابن الجوزي في تفسيره 7/ 27.