ثم أكد - سبحانه - هذا التحذير بقوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ } يا بنى آدم ، عداوة قيدمة وباقية إلى يوم القيامة .
وما دام الأمر كذلك { فاتخذوه عَدُوّاً } أى : فاتخذوا أنتم عدوا لكم فى عقائدكم .
وفى عباداتكم . وفى كل أحوالكم ، بأن تخالفوا وسوسته وهمزاته وخطواته . .
وقوله : { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } تقرير وتأكيد لهذه العداوة .
أى : اتخذوا - يا بنى آدم - الشيطان عدوا لكم ، لأنه لا يدعو أتباعه ومن هم من حزبه إلى خير أبدا ، وإنما يدعوهم الى العقائد الباطلة . والأقوال الفاسدة . والأفعال القبيحة التى تجعلهم يوم القيامة من أهل النار الشديدة الاشتعال . .
قوله تعالى : { إن الشيطان } الآية ، يقوي قراءة من قرأ «الغَرور » بفتح الغين ، وقوله { فاتخذوه عدواً } أي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع ، و «الحزب » الحاشية والصاغية{[9692]} ، واللام في قوله { ليكونوا } لام الصيرورة لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك ، و { السعير } طبقة من طبقات جهنم وهي سبع طبقات .
لما كان في قوله : { ولا يغرنكم بالله الغرور } [ فاطر : 5 ] إبهام مّا في المراد بالغَرور عُقب ذلك ببيانه بأن الغَرور هو الشيطان ليتقررَ المسند إليه بالبيان بعد الإِبهام . فجملة { إن الشيطان لكم عدو } تتنزل من جملة { ولا يغرنكم بالله الغرور منزلة البيان من المبيَّن فلذلك فصلت ولم تعطف ، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغَرور أن الغرور هو الشيطان .
وأُظهر اسم الشيطان في مقام الإِضمار للإِفصاح عن المراد بالغَرور أنه الشيطان وإثارةُ العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحاً وتضمّناً ، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } [ البقرة : 36 ] .
وتلك عداوة مودَعة في جبلَّتِه كعداوة الكلب للهرّ لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسَّنة مزينة ، وشواهد ذلك تظهر للإِنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] .
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لقصد تحقيقه لأنهم بغفلتهم عن عداوة الشيطان كحال من ينكر أن الشيطان عدوّ .
وتقديم { لكم } على متعلَّقة للاهتمام بهذا المتعلّق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوّاً لأنهم إذا علموا أنه عدوّ لهم حقّ عليهم اتخاذه عدوّاً وإلا لكانوا في حماقة . وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان .
والكلام على لفظ عدوّ تقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة النساء ( 92 ) .
واللام في { لكم } لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإِضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافاً إليه صرح باللام ليحصل معنى الإِضافة .
وإنما أمر الله باتخاذ العدوّ عدواً ولم يندب إلى العفو عنه والإِغضاء عن عداوته كما أمر في قوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدوّ لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [ الممتحنة : 1 ] الآية ، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملّة لأن مناوأتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] فعداوة الشيطان لما كانت جبلّية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوّاً لأنه إذا لم يتخذ عدوّاً لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته .
ومن لوازم اتخاذه عدوّاً العملُ بخلاف ما يدعو إليه لتجنب مكائده ولمقته بالعمل الصالح .
فالإِيقاع بالناس في الضرّ لا يسلم منه أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمِر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وَطَره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئزُّ وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوِسَه إلى أن يبلغ حدّ الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : { إيه يا بنَ الخطاب ما رآك الشيطان سالكاً فَجًّا إلا سلك فجَّاً غير فَجِّك } وورد في « الصحيح » " إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان " الحديث . وورد " أنه ما رِيءَ الشيطانُ أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة " .
وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوّاً بتحذير من قبُول دعوته وحثَ على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضرّ أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير . وهذا يؤكد الأمرَ باتخاذه عدوّاً لأن أشدّ الناس تضرراً به هم حزبه وأولياؤه .
وجملة { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } تعليل لجملة { فاتخذوه عدواً } . وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو عن تلك الغاية ولو في وقت مّا . وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضاً في معنى التذييل لما قبلها كله .
ومقتضى وقوع فعل { يدعو } في حيّز القصر أن مفعوله وهو قوله : { حزبه } هو المقصود من القصر ، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه ، والشيطان يدعو الناس كلّهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يركن إلى دعوته إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى له : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] . وحكى الله عن الشيطان بقوله : { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف . والتقدير : إنما يدعو حزبه دعوة بالغة مقصده . والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة .
واللام في قوله : { ليكونوا من أصحاب السعير } يجوز أن تكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعياً لغاية إيقاع الآدميين في العذاب نكاية بهم ، وهي علة للدعوة مخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفاءها من جملة كيده وتزيينه ، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] قال ابن عطية : لأنه لم يدْعُهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك .
و { السعير } : النار الشديدة ، وغلب في لسان الشرع على جنهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الشيطان لكم عدو} حين أمركم بالكفر بالله {فاتخذوه عدوا}: فعادوه بطاعة عز وجل.
{إنما يدعوا حزبه} إنما يدعو شيعته إلى الكفر بتوحيد الله عز وجل.
{ليكونوا من أصحاب السعير} يعني الوقود.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ الشّيْطانَ" الذي نهيتكم أيها الناس أن تغترّوا بغروره إياكم بالله "لَكُمْ عَدُوّ فاتّخِذُوهُ عَدُوّا "يقول: فأنزلوه من أنفسكم منزل العدوّ منكم، واحذروه بطاعة الله واستغشاشكم إياه، حذركم من عدوّكم الذي تخافون غائلته على أنفسكم، فلا تطيعوه ولا تتّبعوا خطواته، فإنه "إنما يدعو حزبه"، يعني شيعته، ومن أطاعه إلى طاعته والقبول منه، والكفر بالله "لِيَكُونُوا منْ أصحَابِ السّعِيرِ" يقول: ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوًّا} يذكر هذا، لأن ما يدعو الشيطان الخلق إليه في الظاهر يخرّج مُخرَج الشفقة والنصيحة كما يدعو الأولياء، لأنه يدعوهم إلى قضاء شهواتهم ولذاتهم وما تهوى أنفسهم، وإن كان يضمُر، ويقصد به هلاكهم.
{فاتخذوه عدوًّا} أي كونوا عن دعائه وأمره على حذر كما يحذر المرء دعاء عدوّه.
{إنما يدعوا حزبه}...قال القتبيّ وأبو عوسجة: حزبه أنصاره والحزب الأنصار،
وقال بعضهم: جنده. وقال بعضهم: حزبه وُلاته الذين يتولاهم، ويتولّونه، وكله واحد.
{إنما يدعوا حزبه} خصّ حزبه بالدعاء لهم لما أن حزبه هم المجيبون له والمطيعون. فأما غير حزبه فلا يجيبونه، وهو كقوله: {إنما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب} [يس: 11] وكان ينذر من اتبع الذِّكر ومن لم يتّبع الذّكر. لكن خص بإنذاره من اتبع الذكر لما أن متّبع الذّكر، هو المنتفع به دون من لم يتّبع، لذلك خصّه.
{ليكونوا من أصحاب السّعير} قصد بدعائه حزبه إلى ما يدعوهم {ليكونوا من أصحاب السّعير}، وإلا لو كان أظهر لهم الدعاء إلى عذاب السّعير ما أجابوه، ولا أطاعوه، ولكن دعاهم إلى أعمال توجب لهم السعير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إن الشيطان لكم عدو" فيعدل بكم عن أفعال الخير ويدعوكم إلى ما فيه الهلكة، فالعداوة ضد الولاية، ولا يجوز أن يكون أحد عدوا من وجه وليا من وجه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عدواةُ الشيطان بدوام مخالفته؛ فإنَّ مِنَ الناس مَنْ يعاونه بالقول، ولكن يوافقه بالفعل، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربِّ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة، والشيطانُ لا يفتر في عداوتك، فلا تَغْفَلْ أنت عن مولاك لحظةً فيبرز لك عدوُّك؛ فإنه أبداً متمكِّنٌ لك.
{إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ} وحِزْبه هم المُعرِضون عن الله، المشتغلون بغير الله، الغافلون عن الله. ودليلُ هذا الخطاب: إن الشيطانَ عدوُّكم فأبغضوه واتخذوه عدواً، وأنا وَلِيُّكُم وحبيبُكم، فأَحِبُّوني وارْضَوْا بي حبيباً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أخبرنا الله عزّ وجلّ أن الشيطان لنا عدوّ مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، فوعظنا عزّ وجلّ بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله {فاتخذوه عَدُوّاً} في عقائدكم وأفعالكم، ولا يوجدن منكم إلاّ ما يدلّ على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فاتخذوه عدواً} أي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع.
«الحزب» الحاشية والصاغية، واللام في قوله {ليكونوا} لام الصيرورة لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك.
{السعير} طبقة من طبقات جهنم وهي سبع طبقات...
{ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: 5] ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار، وقال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} ولا تسمعوا قوله.
{فاتخذوه عدوا} أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح.
{إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} إشارة إلى معنى لطيف، وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان:
أحدهما: أن يعاديه مجازاة له على معاداته.
والثاني: أن يذهب عداوته بإرضائه.
فلما قال الله تعالى: {إن الشيطان لكم عدو} أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا، وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا راضيتموه واتبعتموه، فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك؛ فإنه يقف عنده ويصبر على قتاله والصبر معه الظفر، فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه، ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه، فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان، فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال بعض العلماء: وتحت هذا الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنه يقول: إنما عاديت إبليس من أجل أبيكم ومن أجلكم، فكيف يحسن بكم أن توالوه؟ بل اللائق بكم أن تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الشيطان} أي المحترق بالغضب البعيد من الخير {لكم} أي خاصة فهو في غاية الفراغ لأذاكم، فاجتهدوا في الهرب منه.
{عدو}...ولما كانت عداوته تحتاج إلى مجاهدة لأنه يأتي الإنسان من قبل الشهوات، عبر بصيغة الافتعال فقال: {فاتخذوا} اي بغاية جهدكم {عدواً}.
ثم علل ذلك بقوله: {إنما يدعو حزبه...}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كان في قوله: {ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: 5] إبهام مّا في المراد بالغَرور عُقب ذلك ببيانه بأن الغَرور هو الشيطان ليتقررَ المسند إليه بالبيان بعد الإِبهام. فجملة {إن الشيطان لكم عدو} تتنزل من جملة {ولا يغرنكم بالله الغرور منزلة البيان من المبيَّن؛ فلذلك فصلت ولم تعطف، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم، إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغَرور أن الغرور هو الشيطان.
وأُظهر اسم الشيطان في مقام الإِضمار للإِفصاح عن المراد بالغَرور أنه الشيطان وإثارةُ العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحاً وتضمّناً، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} [البقرة: 36].
وإنما أمر الله باتخاذ العدوّ عدواً، ولم يندب إلى العفو عنه والإِغضاء عن عداوته كما أمر في قوله: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدوّ لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها، ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة، كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي
حميم} [فصلت: 34]، ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1] الآية، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملّة؛ لأن مناوأتهم غير عارضة، بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة: 34]؛ فعداوة الشيطان لما كانت جبلّية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه، لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوّاً؛ لأنه إذا لم يتخذ عدوّاً لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته.
ومن لوازم اتخاذه عدوّاً العملُ بخلاف ما يدعو إليه لتجنب مكائده ولمقته بالعمل الصالح. فالإِيقاع بالناس في الضرّ لا يسلم منه أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمِر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وَطَره، وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم، يشمئزُّ وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوِسَه إلى أن يبلغ حدّ الفرار من عظماء الأمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: {إيه يا بنَ الخطاب ما رآك الشيطان سالكاً فَجًّا إلا سلك فجَّاً غير فَجِّك}، وورد في « الصحيح» "إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان "الحديث.
وورد "أنه ما رِئي الشيطانُ أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة". وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوّاً بتحذير من قبُول دعوته وحثَ على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه، بأنه يسعى في ضرّ أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير، وهذا يؤكد الأمرَ باتخاذه عدوّاً لأن أشدّ الناس تضرراً به هم حزبه وأولياؤه.
وجملة {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} تعليل لجملة {فاتخذوه عدواً}،وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة؛ كيلا يتوهم أن دعوته تخلو عن تلك الغاية ولو في وقت مّا،وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضاً في معنى التذييل لما قبلها كله.
ومقتضى وقوع فعل {يدعو} في حيّز القصر أن مفعوله وهو قوله: {حزبه} هو المقصود من القصر، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه، والشيطان يدعو الناس كلّهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يركن إلى دعوته؛ إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى له: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]، وحكى الله عن الشيطان بقوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39، 40] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف، والتقدير: إنما يدعو حزبه دعوة بالغة مقصده. والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة...
ما دام أنه عدو لك مُعْلِن العداء، فلا يجوز لك أنْ تهادنه أو تستكين له وتطيعه؛ لأنك حين تطيعه يستمرىء عداوته ضدك، إذن: لا بُدَّ أنْ تعاديه، وأنْ تُوفقه عند حدِّه، كيف؟ أضعف الإيمان أنْ لا تطيعه، فإنْ أردتَ أن تكون أقوى منه فانتقم منه وغِظْه بأنْ تتجه إلى مقابل ما يطلب منك، فهو يأمر بالسوء، فافعل أنت الحسن يأمرك بالشر، فاجتهد في الخير، وكأنك تسخر منه وتُلقِّنه درساً لا يملك بعده إلا أنْ ينصرف عنك؛ لأنك وظَّفْتَ عداوته لصالحك وانتفعتَ بها، وهذا ما يغيظه.
وتستطيع أنْ تأخذ بهذا المبدأ مع أيِّ عدو آخر، سواء أكان من شياطين الإنس أو شياطين الجن، تستطيع أن تجعل من عداوته لك حافزاً على الخير وعلى عشق كل ما هو جميل، فالعاقل مَن استفاد من عدوه أكثر من استفادته من صديقه...
فالمؤمن الحق يستطيع أن يستفيد من عداوة أعدائه في نواحٍ كثيرة، فهو مثلاً يعمل ويجتهد ليتفوق على عدوه، لا أنْ يتكاسل حتى يكون دونه منزلةً ومرتبةً، يجتنب المعايب وأفعال السوء حتى لا يعطي لعدوه فرصة أنْ يشمت فيه.. إلخ.
وإذا كان الكريم يأسرك بكرمه وتدان له بجميله، فليس للبخيل جميل عليك، ولست أسيراً له في شيء...
ومعنى {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} أن تشحن كل طاقاتك وكل مواهبك لتربِّي فيك المناعة اللازمة ضد إغراءاته ووسوسته لك بالسوء، فإنْ أردتَ الارتقاء في مناهضته، فزِدْ من الحسنات التي يكرهها، فإنْ جاءك في الصلاة ليفسدها علَيك فَغِظْه بأنْ تخشع فيها، وتزيد في تحسينها.
{إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} يعني: أصبح له حزب وجماعة يحاول أنْ يُكثِّرها؛ لذلك قال تعالى في موضع آخر:
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19].
ومعنى حزب: جماعة تعصَّبوا لفكرة يعملون من أجلها في مقابل جماعة أخرى لهم مناهضات، ويعملون هم أيضاً لفكرة تخدمهم.
والعِلَّة في أنه يدعو حزبه ليكونوا كثرة فيكثر المتخبطون في منهج الله والخارجون عنه في مقابل الإيمان والطاعة، هذه هي العلة.
أما قوله تعالى {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فاللام هنا لام العاقبة ومعناها: أنك تريد الشيء لعلة، لكن تنتهي إلى علَّة أخرى ضد مطلوبك.
وقوله: {مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} دلَّ على أن بينهم وبين النار أُلْفة، وأنها تريدهم وتعشقهم حتى صارتْ بينهما مصاحبة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«حزب» في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية، ولكنّها تطلق عادةً على كلّ مجموعة تتبع برنامجاً وهدفاً خاصاً. والمقصود (بحزب الشيطان) أتباعه. طبيعي أنّ الشيطان لا يمكنه إدخال أيّ أحد من الناس ليكون عضواً رسمياً في حزبه ويقوده إلى جهنّم، فأعضاء حزبه هم الذين يتّصفون بالصفات المذكورة في بعض الآيات القرآنية.. * فهم الذين طوّقوا أنفسهم بطوق العبودية للشيطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه). * وهم الذين (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اُولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون). والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم ذكر «حزب الله» في ثلاثة مواضع وكذلك ذكر «حزب الشيطان» في ثلاثة مواضع أيضاً، حتّى يتّضح من الذين يقيّدون أسماءهم في حزب الله، ومن هم أعضاء حزب الشيطان؟ ولكن من الطبيعي أنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات.. إلى الشرك والطغيان والاضطهاد، وبالنتيجة إلى جهنّم وبئس المصير...