قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } ، أي : لا تتجاوزوا الحد ، والغلو ، والتقصير ، كل واحد منهما مذموم في الدين ، وقوله : { غير الحق } ، أي : في دينكم المخالف للحق ، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ، ثم غلوا فيع بالإصرار عليه . قوله تعالى : { ولا تتبعوا أهواء قوم } ، والأهواء جمع الهوى ، وهو ما تدعو إليه شهوة النفس .
قوله تعالى : { قد ضلوا من قبل } ، يعني : رؤساء الضلالة في فريقي اليهود والنصارى ، والخطاب للذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم .
قوله تعالى : { وأضلوا كثيراً } ، يعني من اتبعهم على أهوائهم .
قوله تعالى : { وضلوا عن سواء السبيل } ، عن قصد الطريق ، أي : بالإضلال ، فالضلال الأول من الضلالة ، والثاني بإضلال من اتبعهم .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى طريق الحق ، ونهاهم عن الغلو الباطل فقال : { قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } والغلو مصدر غلا في الأمر : إذا تجاوز الحد . وهو نقيض التقصير .
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم عن الغلو حتى في الدين ، فقد روى الإِمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغو في الدين " .
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ؛ إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " .
وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المتنطعون . قالها ثلاثة " والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون للحدود التي جاءت بها تعاليم الإِسلام .
وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى - عليه السلام - أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديداً وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة . وكما غالوا في شأن عيسى عليه السلام - فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة ، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها .
وقوله { غَيْرَ الحق } منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف . أي : لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق : أي : غلوا باطلا .
وقوله : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } معطوف على قوله : { لاَ تَغْلُواْ } .
قال الفخر الرازي : الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة .
قال الشعبي : ما ذكرالله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه . قال : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } وقال : { واتبع هَوَاهُ فتردى } وقال :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } وقال : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } وقال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال : فلان يهوي الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه .
وقيل : سمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . وأنشد في ذم الهوى :
إن الهوى الهوان بعينه . . . فإذا هويت فقد لقيت هواناً
وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هو أي على هواك . فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة .
والمعنى : قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة ، قل لهم يا أهل الكتاب : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق } أي : لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزوا باطلا ، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم ، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برئ منها .
وقل لهم أيضاً : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } أي : ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } أي : قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جرياً وراء شهواتهم وأهوائهم { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } أي أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناساً كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله : { وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } معطوف على قوله { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } .
أي أنهم قد ضلوا من قبل البعثة النبوية الشريفة ، وضلوا من بعدها عن { سَوَآءِ السبيل } أي : عن الطريق الواضح الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو طريق الإِسلام وذلك لأنهم لم يتبعوه مع معرفتهم بصدقه ؛ بل كفروا به حسدا له على ما آتاه الله من فضله .
فأنت ترى أنه - تعالى - قد وصفهم - كما يقول الإِمام الرازي - بثلاث درجات في الضلال : فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقابه من هذه الحالة ويحتمل أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإِضلال أنه إرشاد إلى الحق .
هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية الكريمة أن الغلو في الدين لا يجوز وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وقد سقنا من الآثار ما يشهد بذلك عند تفسيرنا لصدر الآية الكريمة .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان " غلو حق " وهو أن يفحص عن حقائقه ، ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون . وغلوا باطل ، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإِعراض عن الأدلة واتباع الشبه . كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال .
ثم أمر تعالى نبيه محمداً أن ينهاهم عن الغلو في دينهم ، والغلو تجاوز الحد ، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد{[4647]} ، وتلك المسافة هي غلوته{[4648]} ، وكما كان قوله { لا تغلوا } بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب { غير } وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو ، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم ، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه ، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى ، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل ، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم ، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم ، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى ، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج ، هذه طريقة فلان ، تمثله بآخر قد اعوج نوعاً آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً وأضلوا كثيراً من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى : { وضلوا عن سواء السبيل } وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل ، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد ، وأضلوا كثيراً من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق .
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء . والغلوّ مصدر غَلا في الأمر : إذا جاوزَ حدّه المعروف . فالغلوّ الزّيادة في عَمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع .
وقوله : { غيرَ الحقّ } منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل { تغلوا } أي غلوّاً غير الحقّ ، وغير الحقّ هو الباطل . وعدل عن أن يقال باطلاً إلى { غيرَ الحق } لِما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف . والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم ؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم . وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازاً عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه ، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع . وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } في سورة النّساء ( 171 ) . فمِن غُلوّ اليهود تجاوزُهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام . ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبُهم محمداً . ومن الغلوّ الّذي ليس باطلاً ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه .
وقوله : { ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل } عطف على النّهي عن الغلوّ ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه ؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغُلاة من أحبارهم ورُهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل . فلذلك سمّي تغاليهم أهواء ، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيراً مثل ( قيافا ) حَبر اليهود الّذي كفَّر عيسى عليه السّلام وحكم بأنّه يقتل ، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث .
وقوله { من قبلُ } معناه من قبِلكِم . وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وغيرُ وحسبُ ودونَ ، وأسماء الجهات ، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذٍ ، ويندر أن تكون معربة إلاّ إذا نُكّرت . وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكَّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة ، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة .
وقوله : { وضلّوا عن سواء السّبيل } مقابل لقوله : { قد ضلّوا من قبلُ } فهذا ضلال آخر ، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام . والسواء المستقيمُ ، وقد استعير للحقّ الواضح ، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعدَ ذلك عن الإسلام .
وقيل : الخطاب بقوله : { يأهل الكتاب } للنّصارى خاصّة ، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث ، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود . ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم ؛ فيكون الكلام تنفيراً للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود ، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل يا أهل الكتاب}، يعني نصارى نجران، {لا تغلوا في دينكم} عن دين الإسلام فتقولوا {غير الحق} في عيسى ابن مريم، {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا} عن الهدى، {من قبل وأضلوا}، عن الهدى {كثيرا} من الناس، {وضلوا عن سواء السبيل}، يعني وأخطأوا عن قصد سبل الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح:"يا أهْلَ الكِتابِ" يعني بالكتاب: الإنجيل، "لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ "يقول: لا تفْرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. "وَلا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثِيرا": ولا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدي في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا: هو لغير رِشْدة، وتَبْهتوا أمه كما يبهتونها بالفرية، وهي صدّيقة. "وأضَلّوا كَثِيرا": وأضلّ هؤلاء اليهود كثيرا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحقّ وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح. "وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ": وضلّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجة الحقّ وإنما يعني تعالى ذكره بذلك كفرهم بالله وتكذيبهم رسله عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم، وذهابهم عن الإيمان وبُعْدهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يخاطب أهل الكتاب، وهم النصارى هاهنا. وقال قوم: المراد به اليهود والنصارى، لأن اليهود أيضا غلوا في تكذيب عيسى، ومحمد (صلى الله عليه وآله) ويقول لهم "لا تغلوا في دينكم "ومعناه لا تتجاوزوا الحد الذي حده الله لكم إلى الازدياد. وضده التقصير وهو: الخروج عن الحد إلى النقصان. والزيادة في الحد والنقصان معا فساد، أي ودين الله الذي أمر به هو بين الغلو والتقصير، وهو الاقتصاد. وقوله "ولا تتبعوا أهواء قوم" وقل لهم: لا تسلكوا سبيل الأوائل، لأن الاتباع هو سلوك الثاني طريقة الأول على وجه الاقتداء به، وقد يتبع الثاني الأول في الحق وقد يتبعه في الباطل. وإنما يعلم أحدهما بدليل. والمراد هاهنا النهي عن اتباع سبيلهم الباطل. والأهواء هاهنا المذاهب التي تدعو اليها الشهوة دون الحجة، لأنه قد يستثقل النظر لما فيه من المشقة، وميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده، وهو ضلال فيهلك به. وقوله: "قد ضلوا من قبل" فيه قولان: قال الحسن، ومجاهد: هم اليهود. وقال أبو علي هم أسلافهم الذين هم رؤساء ضلالتهم الذين سنّوا لهم هذا الكفر من الفريقين اليهود والنصارى. "وأضلوا كثيرا" يعني هؤلاء الذين ضلوا من قبل وأضلوا أيضا كثيرا من الخلق. ونسب الإضلال اليهم، من حيث كان بدعائهم وإغوائهم. وقوله "وضلوا عن سواء السبيل" قيل في معناه قولان: أحدهما -ضلوا بإضلالهم غيرهم في قول الزجاج. الثاني- وضلوا من قبل، وضلوا من بعد، فلذلك كرر. وقيل "وضلوا من قبل" عن الهدى في الدنيا "وأضلوا كثيرا" عن طريق الجنة. و "سواء السبيل" معناه مستقيم الطريق. والمعنى فيه الحق من الدين، لأنه يستقيم بصاحبه إلى الجنة، والخلود في النعيم. وقيل له: سواء لاستمراره على استواء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
التعمقُ في الباطل قطعٌ لآمال الرجوع؛ فكلما كان بُعْدُ المسافةِ مِنَ الحقِّ أتمَّ، كان اليأسُ من الرجعةِ أوجبَ. ومُتَّبعُ الضلالة شرٌّ مِنْ مبتدِعها؛ لأن المبتدعَ يبني، والمُتَّبع يُتِمُّ البناء، ومنْ به كمالُ الشرِّ شرُّ ممن منه ابتداءُ الشر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{غَيْرَ الحق} صفة للمصدر أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أي غلوا باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوَّان غلوّ حق: وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم. وغلوّ باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه، كما يفعل أهل الأهواء والبدع. {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} هم أئمتهم في النصرانية، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} ممن شايعهم على التثليث {وَضَلُّواْ} لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم {عَن سَوَاء السبيل} حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر تعالى نبيه محمداً أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله {لا تغلوا} بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا... وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل، هم بالضد في الأقوال، وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعاً آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله. ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: {وضلوا عن سواء السبيل} وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيراً من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ من طَرِيقَيْهِ: فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي الْعَمَلِ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ، وَغُلُوُّهُمْ فِي الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ من الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ.
.. وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ).
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ (أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سَمِعَ امْرَأَةً من اللَّيْلِ تُصَلِّي، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قِيلَ: الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ. فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، اكْلَفُوا من الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ).
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى).
.. لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا فِي سُنَنِهِ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ، وَوَاظَبَتْ عَلَى الصَّوْمِ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ، وَقَدْ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود ثم على بطلان مدعى النصارى، ولم يبق لأحد علة، أمره صلى الله عليه وسلم أن ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى عليه السلام: اليهود بإنزاله عن رتبته، والنصارى برفعه عنها بقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب} أي عامة {لا تغلوا} أي تجاوزوا الحد علواً ولا نزولاً {في دينكم}.
ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق واستنباط الخفي من الأحكام والدقائق من خبايا النصوص، نفى ذلك بقوله: {غير الحق} وعرّفه ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها، وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها، ولو نكر لكان من جاوز حقاً إلى غيره واقعاً في النهي، كمن جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع، ولو قيل: باطلاً، لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل، لا أصله ومطلقه.
ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم، نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم فقال: {ولا تتبعوا} أي فاعلين فعل من يجتهد في ذلك {أهواء قوم} أي هَوَوا مع ما لهم من القوة، فكانوا أسفل سافلين، والهوى لا يستعمل إلا في الشر {قد ضلوا} ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل فصبروا على ضلالهم وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم {وأضلوا} أي لم يكفهم ضلالُهم في أنفسهم حتى أضلوا غيرهم {كثيراً} أي من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظن حقاً {وضلوا} أي بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمنابذة الشرع {عن سواء} أي عدل {السبيل} أي الذي لا سبيل في الحقيقة غيره، لأن الشرع هو الميزان القسط والحكم العدل، وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج وترك الاهتداء بنور العلم، وهذا غاية في التبكيت، فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلاً، فكيف وإنما هو تقليد في هوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة، يحسن الإلمام بها في إجمال: الحقيقة الأولى: هي حقيقة هذا الجهد الكبير، الذي يبذله المنهج الإسلامي، لتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة؛ وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب، وتعريف الناس بحقيقة الألوهية؛ وإفراد الله -سبحانه- بخصائصها، وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص.. وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم، يدل على أهمية هذا التصحيح. وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني، ولكل ارتباط إنساني كذلك. والحقيقة الثانية: هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم؛ أو قالوا: إن الله ثالث ثلاثة: فلم يعد لمسلم -بعد قول الله سبحانه- قول. ولم يعد يحق لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين الله. والله سبحانه يقول: إنهم كفروا بسبب هذه المقولات. وإذا كان الإسلام -كما قلنا – لا يكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام، فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه الله. بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه الله. والحقيقية الثالثة: المترتبة على هاتين الحقيقتين، أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام، ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده "الدين "عند الله.. ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل "الأديان" أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل، لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها. فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة.. في اعتبار الإسلام..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء. والغلوّ مصدر غَلا في الأمر: إذا جاوزَ حدّه المعروف. فالغلوّ الزّيادة في عَمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع.
وقوله: {غيرَ الحقّ} منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل {تغلوا} أي غلوّاً غير الحقّ، وغير الحقّ هو الباطل. وعدل عن أن يقال باطلاً إلى {غيرَ الحق} لِما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف. والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم. وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازاً عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ} في سورة النّساء (171). فمِن غُلوّ اليهود تجاوزُهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام. ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبُهم محمداً. ومن الغلوّ الّذي ليس باطلاً ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه.
وقوله: {ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل} عطف على النّهي عن الغلوّ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغُلاة من أحبارهم ورُهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل. فلذلك سمّي تغاليهم أهواء، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيراً مثل (قيافا) حَبر اليهود الّذي كفَّر عيسى عليه السّلام وحكم بأنّه يقتل، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث.
وقوله {من قبلُ} معناه من قبِلكِم. وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وغيرُ وحسبُ ودونَ، وأسماء الجهات، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذٍ، ويندر أن تكون معربة إلاّ إذا نُكّرت. وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكَّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة.
وقوله: {وضلّوا عن سواء السّبيل} مقابل لقوله: {قد ضلّوا من قبلُ} فهذا ضلال آخر، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام. والسواء المستقيمُ، وقد استعير للحقّ الواضح، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعدَ ذلك عن الإسلام.
وقيل: الخطاب بقوله: {يأهل الكتاب} للنّصارى خاصّة، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود. ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم؛ فيكون الكلام تنفيراً للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال.
عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله: {يا أهل الكتاب} أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية التّالية تأمر رسول الله (عليه السلام)، بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ).
إِنّ غلو النصارى معروف، إِلاّ أنّ غلو اليهود، الذي يشملهم تعبير (يا أهل الكتاب) قد يكون إِشارة إلى ما كانوا يقولونه عن العزير وقد اعتبروه ابن الله، ولما كان الغلو ينشأ أكثر ما ينشأ عن إِتباع الضالين أهواءهم، لذلك يقول الله سبحانه (ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل).
وفي هذا إِشارة أيضاً إلى ما انعكس في التّاريخ المسيحي، إِذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح (عليه السلام) لم يكن له وجود خلال القرون الأولى من المسيحية، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئاً من دينهم السابق، كالتثليث والشرك.
إِنّ الثالوث الهندي (الإِيمان بالآلهة الثلاثة: برهما، وفيشنو، وسيغا)، كان تاريخياً أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شك أنّه انعكاس لذاك، ففي الآية الثلاثين من سورة التوبة وبعد ذكر غلو اليهود والنصارى في مسألة العزير والمسيح (عليه السلام) يقول سبحانه (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل).
وقد وردت كلمة «ضلوا» في هذه الآية مرّتين بالنسبة للكفار الذين اقتبس منهم أهل الكتاب الغلو، ولعل هذا التكرار من باب التوكيد، إِذ أنّهم كانوا قبل ذلك من الضّالين، ثمّ لمّا أضلّوا ّلآخرين بدعاواهم وقعوا في ضلال آخر، ومن يسعى لتضليل الآخرين يكون أضلّ منهم في الواقع، لأنّه يكون قد استهلك قواه لدفع نفسه ودفع الآخرين إلى طريق التعاسة ولحمل آثام الآخرين أيضاً على كاهله، وهل يرتضي المرء السائر على الطريق المستقيم أن يضيف إلى آثامه آثام غيره أيضاً؟