قوله تعالى : { أأشفقتم أن تقدموا } قال ابن عباس : أبخلتم ؟ والمعنى : أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم ، { بين يدي نجواكم صدقات ، فإذ لم تفعلوا } ما أمرتم به ، { وتاب الله عليكم } تجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة ، وقيل " الواو " صلة ، مجازه ، فإن لم تفعلوا تاب الله عليكم ، وتجاوز عنكم وخفف عنكم ، ونسخ الصدقة قال مقاتل بن حيان : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقال الكلبي : ما كانت إلا ساعة من نهار . { فأقيموا الصلاة } المفروضة ، { وآتوا الزكاة } الواجبة . { وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون } .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر لطفه بعباده فقال : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } .
الإشفاق معناه : أن يتوقع الإنسان عدم حصوله على ما يريده والمراد به هنا : الخوف .
والاستفهام مستعمل فيما يشبه اللوم والعتاب ، لتخلف بعضهم عن مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبب تقديم الصدقة .
و " إذ " فى قوله : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ظرفية مفيدة للتعليل .
والمعنى : أخفتم - أيها المؤمنون - أن تقدموا قبل مناجاتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم - صدقة فيصيبكم بسبب ذلك الفقر ، إذا ما واظبتم على ذلك .
{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أى : فحين لم تفعلوا ما كلفناكم به من تقديم الصدقة قبل مناجاتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتاب الله - تعالى - عليكم ، بأن رخص لكم فى هذه المناجاة بدون تقديم صدقة ، بفضلنا ورحمتنا - فداوموا على إقامة الصلاة ، وعلى إعطاء الزكاة لمستحقيها ، وأطيعوا الله ورسوله ، فى كل ما أمركم به أو نهاكم عنه .
واعلموا أن الله - تعالى - خبير بما تعملون ، ولا يخفى عليه شىء من أقوالكم أو أفعالكم ، وسيجازي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازي الذين أحسنوا بالحسنى .
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية ناسخة للتى قبلها ، لأنها أسقطت وجوب تقديم الصدقة الذى أمرت به الآية السابقة .
وقد لخص الإمام الآلوسى كلام العلماء فى هذه المسألة تلخيصا حسنا فقال : " واختلف فى أن الأمر للندب أو للوجوب ، لكنه نسخ بقوله - تعالى - : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ . . } وهو وإن كان متصلا به تلاوة ، لكنه غير متصل به نزولا . وقيل نسخ بآية الزكاة . والمعول عليه الأول .
ولم يعين مقدار الصدقة ، ليجزىء القليل والكثير . أخرج الترمذى عن على بن أبى طالب قال : لما نزلت { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً . . } .
قال لى النبى : - صلى الله عليه وسلم - " " ما ترى فى دينار " قلت : لا يطيقونه قال : " نصف دينار " قلت : لا يطيقونه ، قال : " فكم " ؟ قلت : شعيرة . قال : " فإنك لزهيد " " .
فلما نزلت : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ . . } قال - صلى الله عليه وسلم - : " خفف الله عن هذه الأمة " ولم يعمل بها - على المشهور - غير علي - كرم الله وجهه .
واختلف فى مدة بقاء هذا الأمر ، أى : الأمر بتقديم الصدقة : فعن مقاتل : عشرة أيام .
وقال قتادة : ساعة من نهار . . .
قال بعض العلماء : " والآية الناسخة متأخرة فى النزول ، وإن كانت تالية للآية المنسوخة فى التلاوة ، والظاهر - والله أعلم - أن الحادثة من باب الابتلاء والامتحان ، ليظهر للناس محب الدنيا من محب الآخرة ، والله بكل شىء عليم " .
وقال أحد العلماء : " ولا يشتم من قوله - تعالى - : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ . . . } . أن الصحابة قد وقع منهم تقصير . فإن التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت هناك مناجاة لم تصحبها صدقة ، والآية قالت : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } أي : ما أمرتم به من الصدقة ، وقد يكون عدم الفعل ، لأنهم لم يناجوا ، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا .
وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم ، فلا يدل على تقصيرهم ، فقد يكون الله - تعالى - علم - أن كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة فى المستقبل لو دام الوجوب ، فقال الله - تعالى - لهم { أَأَشْفَقْتُمْ } . وكذلك ليس فى قوله { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } ما يدل على أنهم قصروا ، فإنه يحمل على أن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا ، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة . . " .
{ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات }أخفتم الفقر من تقديم الصدقة أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر وجمع صدقات لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } بأن رخص لكم أن لا تفعلوه ، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم مما قام مقام توبتهم ، وإذ على بابها ، وقيل بمعنى إذا أو إن { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، فلا تفرطوا في أدائهما { وأطيعوا الله ورسوله }في سائر الأوامر ، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك { والله خبير بما تعملون }ظاهرا وباطنا .
نزلت هذه الآية عقب التي قبلها : والمشهور عند جمع من سلف المفسرين أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها . وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة ، وقد قيل : لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ولعل غيره لم يحتج إلى نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم واقتصد مما كان يناجيه لأدنى موجب .
فالخطاب لطائفة من المؤمنين قادرين على تقديم الصدقة قبل المناجاة وشقّ عليهم ذلك أو ثقل عليهم .
والإِشفاق توقع حصول مالا يبتغيه ومفعول { أأشفقتم } هو { أن تقدموا } أي من أن تقدموا ، أي أأشفقتم عاقبة ذلك وهو الفقر .
قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية .
والاستفهام مستعمل في اللوم على تجهم تلك الصدقة مع ما فيها من فوائد لنفع الفقراء .
ثم تجاوز الله عنهم رحمة بهم بقوله تعالى : { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } الآية . وقد علم من الاستفهام التوبيخي أي بعضاً لم يفعل ذلك .
و ( إذ ) ظرفية مفيدة للتعليل ، أي فحين لم تفعلوا فأقيموا الصلاة .
وفاء { فإذ لم تفعلوا } لتفريع ما بعدها على الاستفهام التوبيخي .
وجملة { وتاب الله عليكم } معترضة ، والواو اعتراضية . وما تتعلق به ( إذ ) محذوف دل عليه قوله : { وتاب الله عليكم } تقديره : خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاء { فأقيموا الصلاة } عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله . أي فذلك لا تسامح فيه ، قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل مما كلفوا به يعفون منه .
وإذ قد كانت الزكاة المفروضة سابقة على الأمر بصدقة النجوى على الأصح كان فعل { آتوا } مستعملاً في طلب الدوام مثل فعل { فأقيموا } .
واعلم أنه يكثر وقوع الفاء بعد ( إذْ ) ومتعلَّقها كقوله تعالى : { وإذ لم يهتدوا به فيسقولون هذا إفك قديم } في سورة [ الأحقاف : 11 ] . { و إذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } في سورة [ الكهف : 16 ] .
وجملة { والله خبير بما تعملون } تذييل لجملة { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أشقّ عليكم وخشيتم أيها المؤمنون بأن تقدموا بين يدي نجواكم رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات الفاقة. وأصل الإشفاق في كلام العرب: الخوف والحذر، ومعناه في هذا الموضع: أخشيتم بتقديم الصدقة الفاقة والفقر... وقوله: {فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ} يقول تعالى ذكره: فإذ لم تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات، ورزقكم الله التوبة من ترككم ذلك، فأدّوا فرائض الله التي أوجبها عليكم، ولم يضعها عنكم من الصلاة والزكاة، وأطيعوا الله ورسوله، فيما أمركم به، وفيما نهاكم عنه.
{وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلونَ} يقول جلّ ثناؤه: والله ذو خبرة وعلم بأعمالكم، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قال أهل التأويل: نسخ ما أمروا به من الصدقة عند المناجاة بما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنها.
"والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" وهذا وعد ووعيد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أأشفقتم} أي خفتم من العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم {أن تقدموا} أي بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم {بين يدي نجواكم} أي للرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أن النجوى تتكرر، وذلك يدل على عدم خوفهم من مشقة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ووجود خوفهم من فعل التصدق {صدقات} وكان بعضهم ترك وهو واجد فبين سبحانه رحمته لهم بنسخها عنهم لذلك في موضع العقاب لغيرهم عند الترك...
{فإذ} أي فحين {لم تفعلوا} أي ما أمرتم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق {وتاب الله} أي الملك الأعلى الذي كان من شأن ما هو عليه من العظمة أن يعاقب من ترك أمره {عليكم} أي رجع بمن ترك الصدقة عن وجدان، وبمن تصدق وبمن لم يجد إلى مثل حاله قبل ذلك من سعة الإباحة والعفو والتجاوز والمعذرة والرخصة والتخفيف قبل الإيجاب، ولم يعاقبكم على الترك ولا على ظهور اشتغال ذلك منكم {فأقيموا} بسبب العفو عنكم شكراً على هذا الكرم والحلم {الصلاة} التي هي طهرة لأرواحكم ووصلة لكم بربكم {وآتوا الزكاة} التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك فتهملوه... {وأطيعوا الله} أي الذي له الكمال كله فلم يشركه في إبداعه لكم على ما أنتم عليه أحد {ورسوله} الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمر به فإنه ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة... {والله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {خبير بما تعملون} أي تجدون علمه، يعلم بواطنه كما يعلم ظواهره.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{غفور رحيم} أي: له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و (إذ) ظرفية مفيدة للتعليل {وتاب الله عليكم} تقديره: خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاء {فأقيموا الصلاة} عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. أي فذلك لا تسامح فيه، قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل مما كلفوا به يعفون منه. وجملة {والله خبير بما تعملون} تذييل لجملة {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
نرجح أن الذين استثقلوا التكليف الجديد وأشفقوا منه هم من المستجدين الذين كانوا يؤلفون أكثرية المسلمين، وليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة (100) وسجلت آيات عديدة مكية ومدنية استغراقهم في دين الله وطاعته وطاعة رسوله...