{ يوم يقوم الناس } من قبورهم ، { لرب العالمين } أي لأمره ولجزائه ولحسابه . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إبراهيم بن المنذر ، أنبأنا معن ، حدثني مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " .
أخبرني أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشمهيني ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي ، حدثنا عبد الله بن محمود ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، قال : حدثني سليم بن عامر ، حدثني المقداد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين -قال سليم : لا أدري أي الميلين يعني مسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين ؟- قال : فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه إلجاماً .
وقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } بدل مما قبله . واللام فى قوله { لرب } للتعليل . أى : يقومون لأجل ربوبيته - تعالى - وتلقى حكمه الذى لا يستطيعون الفرار منه . وفى هذا الوصف ما فيه استحضار جلاله - وعظمته - سبحانه - .
قال القرطبى : وفى هذا الإِنكار والتعجيب ، وكلمة الظن . ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه الله خاضعين ، ووصف ذاته برب العالمين ، بيان بليغ لعظم الذنب ، وتفاقم الإِثم فى التطفيف ، وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على التسوية والعدل ، فى كل أخذ وإعطاء ، بل فى كل قول وعمل . .
هذا ، وقد جاء الأمر بإيفاء الكيل والميزان ، والنهى عن تطفيفهما ، فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } ومنها قوله - سبحانه - : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } قال بعض العلماء ما ملخصه : والتصدى لشأن المطففين بهذا الأسلوب فى سورة مكية ، أمر يلفت النظر ، فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقائد .
ومن ثم فالتصدى لهذا الأمر بذاته ، يدل أولا على أن الإِسلام ، كان يواجه فى البيئة المكية ، حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء .
. الذين يملكون إكراه الناس على ما يريدون فهم " يكتالون على الناس " لا من الناس . . فكأن لهم سلطانا على الناس .
ويدل - ثانيا - على طبيعة هذا الدين ، وشمول منهجه للحياة الواقعية ، وشئونها العملية ، وإقامتها على الأساس الأخلاقى الأصيل فى طبيعة هذا المنهج الإِلهى القويم . .
وقوله : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : يقومون حفاة عراة غُرلا في موقف صعب حَرج ضيق ضنَك على المجرم ، ويغشاهم من أمر الله - ما تَعْجزُ القوى والحواس عنه .
قال الإمام مالك : عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " .
رواه البخاري ، من حديث مالك وعبد الله بن عون ، كلاهما عن نافع ، به{[29828]} . ورواه مسلم من الطريقين أيضا . وكذلك رواه صالح [ وثابت بن كيسان ]{[29829]} وأيوب بن يحيى ، وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ، ومحمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، به{[29830]} .
ولفظ الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : : " { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } لعظَمة الرحمن عز وجل يوم القيامة ، حتى إن العرقَ ليُلجِمُ الرجالَ إلى أنصاف آذانهم " {[29831]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني سليم بن عامر ، حدثني المقداد - يعني ابن الأسود الكندي - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان يومُ القيامة أدنِيَت الشمس من العباد ، حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين ، قال : فتصهرهم الشمس ، فيكونون في العَرق كقَدْر أعمالهم ، منهم من يأخذه إلى عَقِبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حَقْوَيه ، ومنهم من يلجمه إلجاما " .
رواه مسلم ، عن الحكم بن موسى ، عن يحيى بن حمزة - والترمذي ، عن سويد ، عن ابن المبارك - كلاهما عن ابن جابر ، به{[29832]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار ، حدثنا الليث بن سعد ، عن معاوية ابن صالح : أن أبا عبد الرحمن حدثه ، عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ، ويزاد في حرها كذا وكذا ، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور ، يُعرَقون فيها على قدر خطاياهم ، منهم من يبلغ إلى كعبيه ، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ، ومنهم من يبلغ إلى وسطه ، ومنهم من يلجمه العرق " . انفرد به أحمد{[29833]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو عُشَّانة حَي بن يُؤمِنُ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم يقول : " تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس ، فمن الناس من يبلغ عرقه عَقِبيه ، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق ، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ، ومنهم من يبلغ العَجُز ، ومنهم من يبلغ الخاصرة ، ومنهم من يبلغ منكبيه ، ومنهم من يبلغ وسط فيه - وأشار بيده فألجمها فاه ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا - ومنهم من يغطيه عرقه " . وضرب بيده إشارة . انفرد به أحمد{[29834]} .
وفي حديث : أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون . وقيل : يقومون ثلاثمائة سنة . وقيل : يقومون أربعين ألف سنة . ويقضى بينهم في مقدار عشرة{[29835]} آلاف سنة ، كما في صحيح مسلم عن أبي هُرَيرة مرفوعا : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " {[29836]} .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو عون الزيادي ، أخبرنا عبد السلام بن عَجْلان ، سمعت أبا يزيد المدني ، عن أبي هريرة{[29837]} قال : قال النبي{[29838]} صلى الله عليه وسلم لبشير{[29839]} الغفاري : " كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين ، من أيام الدنيا ، لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيه بأمر ؟ " . قال بشير : المستعان الله . قال : " فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كَرْب يوم القيامة ، وسوء الحساب " .
ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام ، به{[29840]} .
وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة{[29841]} .
وعن ابن مسعود : يقومون أربعين سنة رافعي رءوسهم إلى السماء ، لا يكلمهم أحد ، قد ألجم العرق بَرّهم وفاجرهم .
وعن ابن عمر : يقومون مائة سنة . رواهما ابن جرير{[29842]} .
وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة ، من حديث زيد بن الحباب ، عن معاوية بن صالح ، عن أزهر بن سعيد الحواري ، عن عاصم بن حميد ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل : يكبر عشرا ، ويحمد عشرا ، ويسبح عشرا ، ويستغفر عشرا ، ويقول : " اللهم اغفر لي واهدني ، وارزقني وعافني " . ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة{[29843]} .
وقيام الناس فيه { لرب العالمين } يختلف الناس فيه بحسب منازلهم ، فروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
«يقام فيه خمسين ألف سنة{[11677]} » . وهذا بتقدير شدته ، وقيل : ثلاثمائة سنة ، قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، {[11678]} وقال ابن عمر : مائة سنة وقيل ثمانون سنة ، وقال ابن مسعود أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون ، وقيل غير هذا ، ومن هذا كله آثار مروية ومعناها : إن لكل قوم مدة ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم ذلك ، وروي أن القيام فيه على المؤمن على قدر ما بين الظهر إلى العصر ، وروي عن بعض الناس : على قدر صلاة ، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس ، وهو أيضاً مختلف ، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر : «أنه يلجم الكافر إلجاماً {[11679]} » ويروى أن بعض الناس يكون فيه إلى أنصاف ساقيه وبعضهم إلى فوق ، وبعضهم إلى أسفل{[11680]} .