مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (6)

فأما قوله تعالى : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرئ { يوم } بالنصب والجر ، أما النصب فقال الزجاج : يوم منصوب بقوله { مبعوثون } والمعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة ، وقال الفراء : وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى يفعل فنصب ، وهذا كما ذكرنا في قوله : { يوم لا تملك } وأما الجر فلكونه بدلا من { يوم عظيم } .

المسألة الثانية : هذا القيام له صفات :

الصفة الأولى : سببه وفيه وجوه ( أحدها ) : وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين ، فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير ، فيعرف هناك كثرته واجتماعه ، ويقرب منه قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } و( ثانيها ) : أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها ، فذاك هو المراد من قوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } ( وثالثها ) : قال أبو مسلم معنى : { يقوم الناس } هو كقوله : { وقوموا لله قانتين } أي لعبادته فقوله : { يقوم الناس لرب العالمين } أي لمحض أمره وطاعته لا لشيء آخر ، على ما قرره في قوله : { والأمر يومئذ لله } .

الصفة الثانية : كيفية ذلك القيام ، روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال : " يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " وعن ابن عمر : أنه قرأ هذه السورة ، فلما بلغ قوله { يوم يقوم الناس لرب العالمين } بكى نحيبا حتى عجز عن قراءة ما بعده .

الصفة الثالثة : كمية ذلك القيام ، روي عنه عليه السلام أنه قال : ( يقوم الناس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر ) وعن ابن مسعود : " يمكثون أربعين عاما ثم يخاطبون " وقال ابن عباس : وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة .

واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعا من التهديد ، فقال أولا : { ويل للمطففين } وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، ثم قال ثانيا : { ألا يظن أولئك } وهو استفهام بمعنى الإنكار ، ثم قال ثالثا : { ليوم عظيم } والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة ، ثم قال رابعا : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } وفيه نوعان من التهديد ( أحدهما ) : كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار ( والثاني ) : أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين ، ثم ههنا سؤال وهو كأنه قال قائل : كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيئ هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لأجل الشيء الحقير الطفيف ؟ فكأنه سبحانه يجيب ، فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة ، فعظمة القدرة ظهرت بكوني ربا للعالمين ، لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن أنتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف ، فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم ، فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة ، وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف . وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة ، والذي يرى عيب الناس ، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حق نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه ، فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقا .