قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } ، أي : أجعله خالصا لنفسي ، { فلما كلمه } ، فيه اختصار تقديره : فجاء الرسول يوسف فقال له : أجب الملك الآن . روي أنه قام ودعا لأهل السجن فقال : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن : هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك . قال وهب : فلما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي ، وحسبي ربي من خلقه ، عز جاره ، وجل ثناؤه ، ولا إله غيره . ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك من شره وشر غيره . فلما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال : الملك ما هذا اللسان ؟ قال : لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال الملك : ما هذا اللسان . قال هذا لسان آبائي ، ولم يعرف الملك هذين اللسانين . قال وهب : وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية والعبرانية ، فأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فأجلسه { قال إنك اليوم لدينا مكين } ، المكانة في الجاه ، { أمين } ، أي : صادق . وروي أن الملك قال له : إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها . فقال يوسف : نعم أيها الملك ، رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان ، كشف لك عنهن النيل ، فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا ، فبينما أنت تنظر إليهم ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه ، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر متقلصات البطون ليس لهن ضروع ولا أخلاف ، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب ، وخراطيم كخراطيم السباع ، فافترسن السمان افتراس السبع ، فأكلن لحومهن ، ومزقن جلودهن ، وحطمن عظامهن ، وتمششن مخهن ، فبينما أنت تنظر وتتعجب إذ سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء ، فبينما أنت تقول في نفسك أي شيء هذا ؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات ، والمنبت واحد وأصولهن في الماء إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار ، فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت ، فانتبهت من نومك مذعورا . فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا -وإن كانت عجيبة- بأعجب مما سمعت منك ، فما ترى في رؤياي أيها الصديق ؟ فقال يوسف عليه السلام : أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل علفا للدواب ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ، ويأتيك الخلق من النواحي للميرة فتبيع منهم الطعام ، وتأخذ ثمنه ، فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد . فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه ؟ .
ثم بدأت بعد ذلك في الحديث عن الجانب الثانى من حياته عليه السلام .
وهو جانب الرخاء والعز والتمكين في حياته ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي . . . }
وفى الكلام إيجاز بالحذف ، والتقدير : وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف - عليه السلام - انكشافا تاما ، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز ، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به ، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه . .
بعد كل ذلك قال الملك لخاصته : ائتونى بيوسف هذا ، ليكون خالصا لنفسى ، وخاصا بى في تصريف أموري ، وكتمان أسراري ، وتسيير دفة الحكم في مملكتي .
والسين والتاء في قوله " أستخلصه " للمبالغة في الخلوص له ، فهما للطلب كما في استجاب ، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شوائب الشركة .
فكأن الملك قد شبه يوسف - عليه السلام - بالشئ النفيس النادر ، الذي يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه .
والفاء في قوله { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } معطوفة على محذوف يفهم من السياق .
والضمير المنصوب في " كلَّمه " يعود على الملك - على الراجح - .
والمراد باليوم : الذي حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف .
و { مكين } صفة مشبهة من الفعل مكن - بضم الكاف - ، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة ، يقال : مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته ، ويقال : مكنت فلانا من هذا الشئ إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة .
{ أمين } بزنة فعيل بمعنى مفعول ، أى : مأمون على ما نكلفك به ، ومحل ثقتنا .
والمعنى : وقال الملك لجنده ائتونى بيوسف هذا أستخلصه لنفسى فأتوه به إلى مجلسه .
فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له : إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة ، والمنزلة الرفيعة ، التي تجعلنا نأتمنك على كل شئ في هذه المملكة ، وتلك المقالة من الملك ليوسف ، هي أولى بشائر عاقبة الصبر ؛ وعزة النفس ، وطهارة القلب ، والاستعصام بحبل الله المتين . . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي}، يعني اتخذه،
{فلما} أتاه يوسف و {كلمه}، أي كلم الملك،
{إنك اليوم لدينا مكين}، يقول: عندنا وجيه،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال الملك، يعني ملك مصر الأكبر... لأصحابه:"ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي" يقول: أجعله من خلصائي دون غيري.
وقوله: "فَلَمّا كَلّمَهُ "يقول: فلما كلم الملك يوسف، وعَرَف براءته وعِظَم أمانته، قال له: إنك يا يوسف لدينا "مكين أمين" أي متمكن مما أردت، وعرضَ لك من حاجةٍ قِبلَنا، لرفعة مكانك ومنزلتك لدينا، "أمين" على ما اؤتمنت عليه من شيء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أصدر لرأيه، وأطيع أمره. في هذا يقع استخلاصه إياه، ولذلك قال: {مكنا ليوسف} [الآية: 21و56] لا أن يجعله لحاجة نفسه خالصا دون الناس، لا يشرك غيره...
{فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}... قيل: المكين: الوجيه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وقال الملك ائتوني به اسْتخلصه لنفسي} وهذا قول الملك الأكبر لما علم أمانة يوسف اختاره ليستخلصه لنفسه في خاص خدمته. {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} لأنه استدل بكلامه على عقله، وبعصمته على أمانته فقال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وهذه منزلة العاقل العفيف. وفي قوله {مكين} وجهان:
الثاني: متمكن في المنزلة الرفيعة.
أحدها: أنه بمعنى آمن لا تخاف العواقب، قاله ابن شجرة.
الثاني: أنه بمعنى مأمون ثقة، قاله ابن عيسى.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما اتضحت للمِلك طهارةُ فِعْلِه ونزاهةُ حالِه استحضره لاستصفائه لنفسه، فلمَّا كَلَّمَه وسَمِعَ بيانَه رَفَعَ مَحلَّه ومكانه، وضمنه بِرَّه وإحسانَه، فقال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى: أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضاً صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}... وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولاً -حين تحقق علمه- {ائتوني به} [يوسف: 50] فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}، فلما جاءه وكلمه قال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه...
و {أمين} من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن. وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيراً...
واعلم أن قوله: {مكين أمين} كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب، وذلك لأنه لا بد في كونه مكينا من القدرة والعلم. أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة. وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير لا يحصل إلا به... أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم -من نزاهة الصديق، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها- على ما كان قبله من أمر الملك بإحضاره إليه، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله {قال ما خطبكن} فقال: {وقال الملك} صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام، ولو كان الكل من كلامها لاستغنى بالضمير ولم يحتج إلى إبرازه {ائتوني به أستخلصه} أي أطلب وأوجد خلوصه {لنفسي} أي فلا يكون لي فيه شريك، قطعاً لطمع العزيز عنه، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى انكشاف الحال، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء. ولما كان التقدير: فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة، وأجاب أمر الملك فأتى إليه...
قوله: {فلما كلمه} وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة {قال} مؤكداً تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة: {إنك اليوم} وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال: {لدينا مكين} أي شديد المكنة، من المكانة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده {أمين} من الأمانة، وهي حال يؤمن معها نقض العهد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... لقد تبينت للملك براءة يوسف، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة كذلك تبينت له كرامته وإباؤه، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن، ولا يتهافت على لقاء الملك. وأي ملك؟ ملك مصر! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته، المسجون ظلما، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه؛ ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك.. كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال: (ائتوني به أستخلصه لنفسي).. فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه؛ ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى؛ ولا ليسمعه كلمة "الرضاء الملكي السامي! "فيطير بها فرحا.. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار والنجي والصديق.. فيا ليت رجالا يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام -وهم أبرياء مطلقو السراح- فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم؛ ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء.. يا ليت رجالا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح -حتى المادي- أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء! (وقال الملك: ائتوني به استخلصه لنفسي..) ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك.. (فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين).. فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن. إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة؛ إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير؛ والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة، إذ بالحكمة يوثر الأفعال الصالحة ويترك الشهوات الباطلة، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها. وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير، فلذلك أجابه بقوله: {اجعلني على خزائن الأرض}...
نلحظ أن الملك قد قال: {ائتوني به} مرتين، مرة: بعد أن سمع تأويل الرؤيا؛ لكن يوسف رفض الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته؛ أو: أنه خرج وحضر المواجهة مع النسوة بما فيهن امرأة العزيز. ورأى الملك في يوسف أخلاقا رفيعة؛ وسعة علم. وانتهى اللقاء الأول ليتدبر الملك، ويفكر في صفات هذا الرجل؛ والراحة النفسية التي ملأت نفس الملك؛ وكيف دخل هذا الرجل قلبه. والمرة الثانية عندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ويجعله مستشارا له. ويورد الحق سبحانه هذا المعنى في قوله: {ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} وهذا الاستخلاص قد جاء بعد أن تكلم الملك مع يوسف، وبعد أن استشف خفة يوسف على نفسه؛ وتيقن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز؛ غريزة الجنس. وتيقن من أن يوسف تقبل السجن، وعاش فيه لفترة طالت؛ وهو صاحب علم، وقد ثبت ذلك بتأويل الرؤيا؛ وقد فعل ذلك وهو سجين؛ ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات براءته، أو بعد إثبات البراءة. ولكل ذلك صار من أهل الثقة عند الملك، الذي أعلن الأمر بقوله: {إنك اليوم ليدنا مكين أمين} وذلك ليسد باب الوشاية به، أو التآمر عليه، ومكانة "المكين "هي المكانة التي لا ينال منها أي أحد. ولذلك نجد الحق –سبحانه وتعالى- حينما تكلم عن الوحي من جبريل عليه السلام قال: {إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20)} [التكوير] فالمعنى: أن يوسف عليه السلام أهل للثقة عند الحاكم؛ وهو الذي سينفذ الأمور، وله صلة بالمحكومين، وإذا كان هو الممكن من عند الحاكم؛ فهو أيضا أمين مع المحكومين. والمشكلة في مجتمعاتنا المعاصرة إنما تحدث عندما يرجح الحاكم من يراهم أهل الثقة على أهل الخبرة والأمانة، فتختل موازين العدل. وعلى الحاكم الذكي أن يختار الذين يتمتعون بالأمرين معا؛ أمانة على المحكوم؛ وثقة عند الحاكم، وبهذا تعتدل الحياة على منهج الله...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الملك يستخلصه لعلمه وأمانته: وهكذا برز يوسف كشخصية مميّزة أمام الملك، فهو يملك العلم والخبرة اللذين يؤهلانه للتخطيط للحكم، وللدولة بشكل سليم، كما يملك الطهارة الأخلاقية، والعمق الروحي اللذين يساعدانه على سلامة التنفيذ، دون أيّ خلل أو انحراف، مما يضيف قوّة جديدة للحكم متمكنة من إدارة الدولة بطريقة ناجحة، ومعالجة للمشاكل الصعبة، والأزمات الخانقة. وهكذا فكر الملك أن يستدعيه ليساعده على إدارة أمور الدولة. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} لأني بحاجة إلى العقل الذي يفكر، والإرادة التي تحسم، والأمانة التي تحفظ، والوداعة التي تحب وترعى وتحنو، وهذا ما لم أجده لدى كثيرين ممن يجتمعون حولي لأجل أطماعهم وشهواتهم، إذ أن قربهم من الحاكم يتيح لهم بعض فرص الحكم للعبث والسرقة والظلم ما توفرت الفرص المناسبة لذلك. وجاء يوسف بعد أن حصل على البراءة من التهمة التي أُلصقت به، ليتحمل المسؤولية من موقع التاريخ المشرق الطاهر الذي لا تلوثه جموح الغرائز في اتجاه الجنس المنحرف، ولا يسقطه الضعف المتهالك أمام حالات التحدي. لقد جاء يحمل في شخصيته، الوعي والقوة والثقة بالموقع وبالنفس، وبالروح التي تشعر بأنها ليست بحاجة إلى الآخرين، لتسقط أمام رغباتهم، بل إن الآخرين هم الذين يشعرون بالحاجة إليها، لتفرض عليهم شروطها. وهكذا قابل يوسف الملك، الذي عبّر أمام الناس أنه يريد أن يستخلصه لنفسه، ليستفيد من طاقاته أعظم استفادة، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} عرف طبيعة القوّة التي يتمتع بها، والعقل الذي يحمله، والشخصية الصلبة التي يملكها، {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} فلك المكانة التي تتيح لك تنفيذ كل رغباتك، ولك منا الثقة التي تجعلنا نأتمنك على كل شيء، فاطلب ما تريد من مواقع المسؤولية، لأنك تعرف حجم قدراتك وطبيعة خبرتك في إدارة أمور المجالات التي ترتئيها...