في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

بسم الله الرحمن الرحيم

يتألف هذا الجزء من بقية سورة يوسف المكية ، ومن سورتي الرعد وإبراهيم المكيتين أيضا . فهو جزء كامل من القرآن المكي ؛ بكل خصائص القرآن المكي .

فأما سورتا الرعد وإبراهيم فسنعرف بهما - إن شاء الله - في موضعهما . وأما بقية سورة يوسف ، فنرجو أن يراجع قبل قراءتها في هذا الجزء ما سبق من التعريف بالسورة في الجزء الماضي .

إننا نستقبل في هذا الجزء بقية قصة يوسف ، والتعقيبات المباشرة عليها ؛ ثم التعقيبات الأخيرة في السورة . . وكذلك نستقبل فيه مرحلة جديدة من مراحل حياة الشخصية الأساسية في القصة - شخصية يوسف عليه السلام - ومع امتداد هذه الشخصية واستقامتها على المقومات الأساسية لها - تلك التي مر ذكرها في التعريف بشخصيات القصة في التقديم للسورة ، فإننا نجد في هذه المرحلة الجديدة ملامح جديدة تبرز - هي امتداد طبيعي واقعي لنشأة الشخصية وللمرحلة السابقة من حياتها ولكنها مع ذلك ذات طابع مميز . .

نجد شخصية يوسف - عليه السلام - وقد استقامت مع نشأتها والأحداث التي مرت بها ، والابتلاءات التي اجتازتها ، في ظل التربية الربانية للعبد الصالح ، الذي يعد ليمكن له في الأرض ، وليقوم بالدعوة إلى دين الله وهو ممكن له في الأرض ، وهو قابض على مقاليد الأمور في مركز التموين في الشرق الأوسط !

وأول ملامح هذه المرحلة هذا الاعتزاز بالله ، والاطمئنان إليه ، والثقة به ، والتجرد له ، والتعري من كل قيم الأرض ، والتحرر من كل أوهاقها ، واستصغار شأن القوى المتحكمة فيها ، وهوان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله - سبحانه وتعالى !

تبدو هذه الظاهرة الواضحة في موقف يوسف ، ورسول الملك يجيء إليه في سجنه يبلغه رغبة الملك في أن يراه . . فلا يخف يوسف - عليه السلام - لطلب الملك ؛ ولا يتلهف على مغادرة سجنه الظالم المظلم إلى رحاب الملك الذي يرغب في لقائه ؛ ولا تستخفه الفرحة بالخروج من هذا الضيق .

ولا تتجلى هذه الظاهرة - وما وراءها من التغيرات العميقة في الموازين والقيم والمشاعر في نفس يوسفالصديق ، إلا حين نعود القهقرى بضع سنين ، لنجد يوسف يوصي ساقي الملك - وهو يظن أنه ناج - أن يذكره عند ربه . . إن الإيمان هو الإيمان ، ولكن هذه هي الطمأنينة . الطمأنينة التي تنسكب في القلب وهو يلابس قدر الله في جريانه . . وهو يرى كيف يتحقق هذا القدر أمام عينيه فعلا . . الطمأنينة التي كان يطلبها جده إبراهيم عليه السلام ، وهو يقول لربه : ( رب أرني كيف تحيي الموتى )فيسأله ربه - وربه يعلم : - ( أولم تؤمن ؟ )فيقول - وربه يعلم حقيقة ما يشعر وما يقول - : ( بلى ! ولكن ليطمئن قلبي ) . .

إنها هي هي الطمأنينة التي تسكبها التربية الربانية في قلوب الصفوة المختارة ، بالابتلاء والمعاناة ، والرؤية والمشاهدة ، والمعرفة والتذوق . . ثم الثقة والسكينة . .

وهذه هي الظاهرة الواضحة في كل مواقف يوسف من بعد ، حتى يكون الموقف الأخير في نجائه مع ربه ، منخلعا من كل شيء تهفو له النفوس في هذه الأرض : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) .

أما التعقيبات التي ترد في نهاية القصة ، والتعقيبات العامة في السورة ، فقد تحدثنا عنها إجمالا عند تقديم السورة في الجزء الثاني عشر . وسوف نواجهها بالتفصيل في مواضعها من السياق إن شاء الله . . إنما أردنا فقط أن نبرز تلك الظاهرة الجديدة في الشخصية الرئيسية في القصة . ذلك أنها الظاهرة الأساسية التي تتكامل بها صورة الشخصية ؛ كما أنها هي الظاهرة الأساسية التي يحتفل بها سياق القصة وسياق السورة من الناحية الحركية التربوية للمنهج القرآني . .

والآن سنواجه النصوص تفصيلا :

54

( وقال الملك : ائتوني به أستخلصه لنفسي . . فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال : اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم . . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ، يتبوأ منها حيث يشاء ، نصيب برحمتنا من نشاء ، ولا نضيع أجر المحسنين . ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) . .

لقد تبينت للملك براءة يوسف ، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا ، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة كذلك تبينت له كرامته وإباؤه ، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن ، ولا يتهافت على لقاء الملك . وأي ملك ؟ ملك مصر ! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته ، المسجون ظلما ، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه ؛ ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك . .

كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال :

( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) . .

فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه ؛ ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى ؛ ولا ليسمعه كلمة " الرضاء الملكي السامي ! " فيطير بها فرحا . . كلا ! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه ، ويجعله بمكان المستشار والنجي والصديق . .

فيا ليت رجالا يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام - وهم أبرياء مطلقو السراح - فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ؛ ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء ، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء . . يا ليت رجالا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن ، ويقرأون قصة يوسف ، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح - حتى المادي - أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء !

( وقال الملك : ائتوني به استخلصه لنفسي . . )

ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك . .

( فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين ) . .

فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه . فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان . فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية . إنما هو مكين . وليس هو المتهم المهدد بالسجن . إنما هو أمين . وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه .