البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات .

وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ فقال : لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن ، وما كان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك .

وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا ، فلذلك قال : ائتوني به فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجودة نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده ، فطلبه ثانياً ومقصوده : استخلاصه لنفسه .

ومعنى أستخلصه : أجعله خالصاً لنفسي وخاصاً بي ، وسمى الله فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير ، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً ، لأن ذلك حكم .

والجواب مسلم وتسلموا .

وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما تقلب .

وفي الكلام حذف التقدير : فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به ، فأراد رؤيته وقال : ائتوني به فأتاه ، فلما كلمه .

والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي : فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته .

ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي : فلما كلم يوسف الملك ، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر ، والمرء مخبوء تحت لسانه ، قال : إنك اليوم لدينا مكين أي : ذو مكانة ومنزلة ، أمين مؤتمن على كل شيء .

وقيل : أمين آمين ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ، وبالأمن يحط من إكرام يوسف .