قوله تعالى : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } .
لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ ، قال : { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } ، أي : أجعله خالصاً لنفسي .
قال القرطبيُّ : " انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ : { ائتُونِي بِهِ } ، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل ، قال ثانياً { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } والاستخلاصُ : طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ " .
قال القرطبي : " أسْتَخْلصهُ " جزم ؛ لأنه جواب الأمرِ ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله : " ذلِكَ ليَعْلمَ " ، جرى في السجن ، ويحتمل أنه جرى عند الملك ، ثم قال في جلس آخر : " ائتُوني بِهِ " ؛ تأكيداً .
واختلفوا في هذال الملك ، فقيل : هو العزيز ، وقيل هو الملك الأكبر . وهذا هو الاظهر لوجهين :
الأول : لقول يوسف عليه الصلاة والسلام : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض } .
الثاني : أن قوله : { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } يدلُّ على أنه قبل ذلك ، ما كان خالصاً له ، وكان خالصاً للعزيز ، فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر .
قوله : { فَلمَّا كَلَّمهُ } ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ ، والمفعول يوسف صلوات الله وسلامه عليه ، وهو الظاهر ؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام ، وإنما الملك هو الذي يبدأ ، ويجوز العكس . وفي الكلام اختصارٌ تقديره : فجاء الرسول يوسف ، فقال له : أجب الملك الآن .
رُوِيَ أنَّه قام ، ودعا لأهلِ السِّجن ، فقال : اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعمِّ عليهم الأخبار ، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ .
فلما خرج من السِّجن ، كتب على السجن : هذا قبرُ الأحياءِ ، وبيتُ الأحزانِ ، وتجربة الأصدقاءِ ، وشماتةُ الأعداءِ ، ثمَّ اغتسل ، وتنظَّف من درنِ السِّجن ، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ .
وقال وهبٌ رحمه الله : كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة ، ولما دخل عليه دعا ، وقال : اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره ، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه ، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة ، فقال الملك : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ عمِّي ، إسماعيل ، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ ، فقال : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ آبائي : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً ، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ ، أجابه بذلك اللسان ؛ فأعجب الملك أمرهُ ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا ، قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي ؟ قال : نعم ، فأقبل على يوسف ، فقال الملك : أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً .
فأجابه بذلك الجواب شفاهاً ، وشهد قلبه بصحته ؛ فعند ذلك قال له الملك : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } يقال : فلانٌ مكينٌ عند فلانِ ، بَيِّنُ المكانة ، أي : المنزلة ، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد ، وقوله : { أمِينٌ } أي : قد عرفنا أمانتكَ ، وبراءتك مما نسبت إليه .
واعلم أن قوله : " أمِينٌ " كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ ، والمناقبِ ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم ، أما القدرة ؛ فلأن بها يحصل المكنةُ ، وأما العلم ؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به ، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي ، وبما لا ينبغي ، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل ، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك ؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ ، وأما كونه أميناً ، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة ، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً ، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح ، والفسادِ ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة ، لا لداعي الشَّهوة ، وكل من كان كذلك ، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.