اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

قوله تعالى : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } .

لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ ، قال : { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } ، أي : أجعله خالصاً لنفسي .

قال القرطبيُّ : " انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ : { ائتُونِي بِهِ } ، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل ، قال ثانياً { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } والاستخلاصُ : طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ " .

قال القرطبي : " أسْتَخْلصهُ " جزم ؛ لأنه جواب الأمرِ ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله : " ذلِكَ ليَعْلمَ " ، جرى في السجن ، ويحتمل أنه جرى عند الملك ، ثم قال في جلس آخر : " ائتُوني بِهِ " ؛ تأكيداً .

واختلفوا في هذال الملك ، فقيل : هو العزيز ، وقيل هو الملك الأكبر . وهذا هو الاظهر لوجهين :

الأول : لقول يوسف عليه الصلاة والسلام : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض } .

الثاني : أن قوله : { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } يدلُّ على أنه قبل ذلك ، ما كان خالصاً له ، وكان خالصاً للعزيز ، فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر .

قوله : { فَلمَّا كَلَّمهُ } ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ ، والمفعول يوسف صلوات الله وسلامه عليه ، وهو الظاهر ؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام ، وإنما الملك هو الذي يبدأ ، ويجوز العكس . وفي الكلام اختصارٌ تقديره : فجاء الرسول يوسف ، فقال له : أجب الملك الآن .

فصل

رُوِيَ أنَّه قام ، ودعا لأهلِ السِّجن ، فقال : اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعمِّ عليهم الأخبار ، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ .

فلما خرج من السِّجن ، كتب على السجن : هذا قبرُ الأحياءِ ، وبيتُ الأحزانِ ، وتجربة الأصدقاءِ ، وشماتةُ الأعداءِ ، ثمَّ اغتسل ، وتنظَّف من درنِ السِّجن ، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ .

وقال وهبٌ رحمه الله : كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة ، ولما دخل عليه دعا ، وقال : اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره ، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه ، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة ، فقال الملك : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ عمِّي ، إسماعيل ، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ ، فقال : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ آبائي : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً ، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ ، أجابه بذلك اللسان ؛ فأعجب الملك أمرهُ ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا ، قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي ؟ قال : نعم ، فأقبل على يوسف ، فقال الملك : أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً .

فأجابه بذلك الجواب شفاهاً ، وشهد قلبه بصحته ؛ فعند ذلك قال له الملك : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } يقال : فلانٌ مكينٌ عند فلانِ ، بَيِّنُ المكانة ، أي : المنزلة ، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد ، وقوله : { أمِينٌ } أي : قد عرفنا أمانتكَ ، وبراءتك مما نسبت إليه .

واعلم أن قوله : " أمِينٌ " كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ ، والمناقبِ ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم ، أما القدرة ؛ فلأن بها يحصل المكنةُ ، وأما العلم ؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به ، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي ، وبما لا ينبغي ، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل ، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك ؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ ، وأما كونه أميناً ، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة ، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً ، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح ، والفسادِ ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة ، لا لداعي الشَّهوة ، وكل من كان كذلك ، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء .