السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

واختلف في قوله : { وقال الملك } فمنهم من قال : هو العزيز ، ومنهم من قال : هو الريان الذي هو الملك الأكبر . قال الرازي : وهذا هو الأظهر لوجهين :

الأوّل : أنّ قول يوسف { اجعلني على خزائن الأرض } يدل عليه .

الثاني : قوله { أستخلصه لنفسي } يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر انتهى . وإنما صرّح به ولم يستغن بضميره كراهية الالتباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه السلام ، ولو كان الكل من كلامها لاستغني بالضمير ، ولم يحتج إلى إبرازه { ائتوني به استخلصه لنفسي } ، أي : أجعله خالصاً لي دون شريك . قال ابن عباس : فأتاه الرسول فقال له : ألق عنه ثياب السجن وألبسه ثياباً جدداً ، وقم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة ، واغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً بعد أن دعا لأهل السجن فقال : اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عنهم الأخبار ، وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وبيوت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء . ثم أتى الملك فلما رآه غلاماً حدثاً فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة ؟ ثم أقعده قدّامه وقال له : لا تخف وألبسه طوقاً من ذهب وثياباً من حرير ، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك ، وروي أنّ جبريل عليه السلام دخل على يوسف وهو في الحبس وقال : قل : اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً ، وارزقني من حيث لا أحتسب ، فقبل الله تعالى دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن ، وروي أنّ يوسف لما دخل عليه قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه بالعربية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : هذا لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : هذا لسان آبائي ، قال وهب : كان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين ، وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف عليه السلام وزاد بالعربية والعبرانية { فلما كلمه } ، أي : كلم الملك يوسف عليه السلام وشاهد منه ما شاهد من جلال النبوّة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة أقبل عليه وقال : إني أحبّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً ، فأجابه بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك .

{ قال } له { إنك اليوم لدينا مكين أمين } ، أي : ذو مكانة وأمانة على أمرنا فما ترى أيها الصديق ؟ { قال } أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن ، وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنين المجدبة بعنا الغلال فيحصل بهذا الطريق مال عظيم ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل ؟ فقال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض } .