الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه ، وتحقق في القصة أمانته ، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده ، وتيقن حسن خلاله ، قال : { ائتوني به استخلصه لنفسي{ فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - " ائتوني به " فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا{[9165]} قال : { ائتوني به استخلصه لنفسي } وروي عن وهب بن منبه قال : لما دعي يوسف وقف بالباب فقال : حسبي ربي من خلقه ، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره . ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا ، ثم أقعده الملك معه على سريره فقال . { إنك اليوم لدينا مكين أمين } قال له يوسف { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ } [ يوسف : 55 ] بوجوه تصرفاتها . وقيل : حافظ للحساب ، عليم بالألسن . وفي الخبر : ( يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة ) . وقيل : إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله . وقد قيل في هذه القصة : إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك ، من شره وشر غيره ، ثم سلم على الملك بالعربية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : هذا لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له{[9166]} بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا ، فكلما تكلم الملك{[9167]} بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان ، فأعجب الملك أمره ، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، ثم أجلسه على سريره وقال : أحب أن أسمع منك رؤياي ، قال يوسف نعم أيها الملك ! رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا ، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب{[9168]} أخلافها لبنا ، فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه ، وبدا أسه{[9169]} ، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون ، ليس لهن ضروع ولا أخلاف ، لهن أنياب وأضراس ، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع ، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع ، فأكلن لحومهن ، ومزقن جلودهن ، وحطمن عظامهن ، ومششن مخهن ، فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل ! ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن ! إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء ، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد ، عروقهن في الثرى والماء ، فبينا أنت تقول في نفسك : أي شيء هذا ؟ ! هؤلاء خضر مثمرات ، وهؤلاء سود يابسات ، والمنبت واحد ، وأصولهن في الماء ، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات ، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن ، فصرن سودا مغبرات ، فانتبهت مذعورا أيها الملك ، فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك ! فما ترى في رؤياي{[9170]} أيها الصديق ؟ فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام ، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت ، وأظهر الله فيه النماء والبركة ، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام{[9171]} ، فيكون القصب والسنبل علفا للدواب ، وحبه للناس ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أَهْرَائك{[9172]} الخمس ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك ، فقال الملك : ومن لي بتدبير هذه الأمور ؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا ، ولم يكونوا فيه أمناء ، فقال يوسف عليه السلام عند ذلك{[9173]} : { اجعلني على خزائن الأرض } [ يوسف : 55 ] أي على خزائن أرضك ، وهي جمع خزانة ، ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة ، كقول النابغة :

لهم شِيمةٌ لم يعطها الله غيرَهُم *** من الجُودِ والأحلامُ غيرُ كَوَاذِبِ

قوله تعالى : { استخلصه لنفسي }جزم لأنه جواب الأمر ، وهذا يدل على أن قوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } جرى في السجن . ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر : { ائتوني به } [ يوسف : 50 ] تأكيدا { استخلصه لنفسي } أي اجعله خالصا لنفسي ، أفوض إليه أمر مملكتي ، فذهبوا فجاؤوا به ، ودل على هذا قوله : { فلما كلمه } أي كلم الملك يوسف ، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف ، { قال إنك اليوم لدينا مكين } { قال } الملك : { إنك اليوم لدينا مكين أمين } أي متمكن نافذ القول ، { أمين } لا تخاف غدرا .


[9165]:في ع و و و ي: قال ثانيا.
[9166]:من ع و ي.
[9167]:من ع.
[9168]:تشخب: تسيل.
[9169]:في ع و ي: يبسه.
[9170]:في ع: فما ترى في هذه الرؤيا.
[9171]:في ع: العظمى.
[9172]:كذا في ع و ي و ك: هو بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان. وهي مخازن الحبوب اليوم. و في ا و ح: أمرائك.
[9173]:من ع و ي.