قوله تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا } أي : اتقوا الشرك ، وقرأ الكسائي ( ننجي ) بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، { ونذر الظالمين فيها جثياً } جميعاً . وقيل : جاثين على الركب ، وفيه دليل على أن الكل دخلوها ثم أخرج الله منها المتقين ، وترك فيها الظالمين ، وهم المشركون .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا ، قال : فإنكم ترونه كذلك ، يحشر الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله عز وجل فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا فيدعوهم ، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله ، تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعلمه ، ومنهم من يجردل ثم ينجو ، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله ، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار ، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود ، فيخرجون من النار قد امتحشوا ، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ، ويبقى رجل بين الجنة والنار ، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة ، مقبل بوجهه قبل النار ، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها ، فيقول : هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا ، وعزتك . فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق ، فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم قال : يا رب قدمني عند باب الجنة ، فيقول الله تبارك وتعالى : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت ، فيقول : يا رب لا أكون أشقى خلقك ، فيقول : فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره ؟ فيقول : لا وعزتك لا أسألك غير ذلك ، فيعطى ربه ما شاء من عهد وميثاق ، فيقدمه إلى باب الجنة ، فإذا بلغ باباها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور ، فسكت ما شاء الله أن يسكت ، فيقول يا رب أدخلني الجنة ، فيقول الله تعالى : ويحك يا ابن آدم ما أغدرك ، أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فيضحك الله منه ، ثم يأذن له في دخول الجنة ، فيقول : تمن ، فيتمنى حتى إذ انقطع أمنيته ، قال الله تعالى : تمن كذا وكذا ، أقبل يذكره ربه ، حتى إذا انتهت به الأماني ، قال الله تعالى : لك ومثله معه " . قال أبو سعيد لأبي هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله " قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله : " لك ذلك ومثله معه " . قال أبو سعيد إني سمعته يقول : " ذلك لك وعشرة أمثاله " . ورواه محمد بن إسماعيل عن محمود بن غيلان ، أنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي هريرة بمعناه ، وقال : " فيأتيهم الله عز وجل في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فيتبعونه " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعذب أناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ، ثم تدركهم الرحمة ، قال : فيخرون فيطرحون على أبواب الجنة ، قال : فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنب القثاء في حمالة السيل ، ثم يدخلون الجنة " .
أخبرنا أبو محمد بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا هناد بن السري ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن عبيدة السلماني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار رجل يخرج منها زحفاً فيقال له : انطلق فادخل الجنة ، قال : فيذهب ليدخل الجنة فيجد الناس قد أخذوا المنازل ، فيرجع فيقول : يا رب قد أخذ الناس المنازل ، فيقال : أتذكر الزمان الذي كنت فيه ؟ فيقول : نعم فيقال له : تمن ، فيتمنى ، فيقال له : فإن لك الذي تمنيته وعشرة أضعاف الدنيا ، قال فيقول : أتسخر بي وأنت الملك ؟ قال : فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن أم مبشر ، عن حفصة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية ، قال : قلت يا رسول الله أليس قد قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً } ؟ قال : أفلم تسمعيه يقول : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } " .
يضاف إلى ذلك أن قوله - تعالى - بعد هذه الآية : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } قرينة قوية على أن المراد بقوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا .
. . } أى : داخلها سواء أكان مؤمناً أم كافراً ، إلا أنه - سبحانه - بفضله وكرمه ينجى الذين اتقوا من حرها ، ويترك الظالمين يصطلون بسعيرها .
كذلك مما يشهد بأن الورود بمعنى الدخول ، ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد ؛ والترمذى ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، والحاكم . . . عن أبى سمية قال : اختلفنا فى الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون يدخلونها جميعاً ، ثم ينجى الله الذين اتقوا .
قال : فلقيت جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - فذكرت له ذلك فقال - وأهوى بإصبعه على أذنيه - صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، كما كانت على إبراهيم ؛ حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ، ثم ينجى الله الذين اتقوا ، ويذر الظالمين فيها جثيا " .
ولا يمنع من كون الورود بمعنى الدخول قوله - تعالى - { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا . . . } لأن دخول المؤمنين فيها لا يجعلهم يشعرون بحرها أو حسيسها ، وإنما هى تكون برداً وسلاماً عليهم ، كما جاء فى الحديث الشريف .
قال الإمام القرطبى بعد أن توسع فى ذكر هذه الأقوال : " وظاهر الورود الدخول . . . إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين ، وينجون منها سالمين . قال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا : إنا نرد النار فيقال لهم : لقد وردتموها فألفيتموها رماداً .
قلت : وهذا القول يجمع شتات الأقوال ، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها ، فقد أبعد عنها ونجى منها ، نجانا الله - تعالى - منها بفضله وكرمه ، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالماً ، وخرج منها غانماً .
فإن قيل : فهل يدخل الأنبياء النار ؟ قلنا : لا نطلق هذا ، ولكن نقول : إن الخلق جميعاً يردونها - كما دل عليه حديث جابر - فالعصاة يدخلونها بجرائمهم ، والأولياء والسعداء لشفاعتهم ، فبين الدخولين بون . . . " .
والمعنى : وما منكم - أيها الناس - أحد إلا وهو داخل النار ، سواء أكان مسلماً أم كافراً ، إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين . وهذا الدخول فيها كان على ربك أمراً واجباً ومحتوماً ، بمقتضى حكمته الإلهية ، لا بإيجاب أحد عليه .
{ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أى : ثم بعد دخول الناس جميعاً النار ، ننجى الذين اتقوا ، فنخرجهم منها دون أن يذوقوا حرها { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } أى : ونترك الظالمين فى النار مخلدين فيها . جاثين على ركبهم ، عاجزين عن الحركة ، من شدة ما يصيبهم من هولها وسعيرها .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا أقوال الجاحدين فى شأن البعث والحساب ، وردت عليهم رداً يبطل اقوالهم ، كما أثبتت أن البعث حق ، وأن الحساب حق ، وأن الظالمين سيدخلون النار ، وأن المؤمنين سينجيهم الله - تعالى - بفضله منها .
وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «ثم ننجي » بفتح الثاء من «ثَم » على الظرف ، وقرأ ابن أبي ليلى «ثَمة » بفتح الثاء وهاء السكت ، وقرأ نافع وابن كثير وجمهور من الناس «ننَجّي » بفتح النون الثانية وشد الجيم ، وقرأ يحيى والأعمش «ننْجي » بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم ، وقرأت فرقة «نُجّي » بنون واحدة مضمونة وجيم مشددة ، وقرأ علي بن أبي طالب «ثَم » بفتح الثاء «ننحي » بالحاء غير منقوطة . و { الذين اتقوا } معناه اتقوا الكفر ، وقال بعض العلماء لا يضيع أحد بين الإيمان والشفاعة . { ونذر } دالة على أنهم كانوا فيها ، والظلم هنا هو ظلم الكفر ، وقد تقدم القول في قوله { جثياً } ، وقرأ ابن عباس «الذين اتقوا منها ونترك الظالمين » .
جملة { ثمّ ننجي الذين اتّقوا } زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب ، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل .
و { ثمّ } للترتيب الرتبي تنويهاً بإنجاء الذين اتّقوا وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جُثيّاً . فالمعنى : وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم . وليس المعنى : ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نَجَوْا من الورود إلى النّار . وذكر إنجاء المتقين : أي المؤمنين ، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين .
وجملة { ونذر الظالمين فيها جثياً } عطف على جملة { وإن منكم إلاّ واردها } . والظالمون : المشركون .
والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار . والأصل : ونذركم أيها الظالمون .
ونذر : نترك ، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه ، أمات العرب ماضي ( نذر ) استغناء عنه بماضي ( ترك ) ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } في سورة الأنعام ( 91 ) .
فليس الخطاب في قوله وإن منكم إلاّ واردها } لجميع النّاس مؤمنهم وكافِرِهم على معنى ابتداء كلام ؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم يُنْجوَن من عذابها ، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق ، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة ، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مَساقاً واحداً ، كيف وقد صُدّر الكلام بقوله
{ فوربك لنحشرنهم والشياطين } [ مريم : 68 ] وقال تعالى : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً } [ مريم : 85 ، 86 ] ، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين .
فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى : { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } [ الحجر : 43 ] عقب قوله { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] . فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء .
وهذه الآية مثار إشكال ومحطّ قيل وقال ؛ واتفق جميع المفسرين على أن المتّقين لا تنالهم نار جهنّم ، واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير { منكُم } لجميع المخاطبين بالقرآن ، ورووه عن بعض السلف فصدمَهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلّة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب ، فسلكوا مسالك من التّأويل ، فمنهم من تأوّل الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى ، وهذا بُعد عن الاستعمال ، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المَورد لأنّ أصله من وُرود الحوض . وفي آي القرآن ما جاء إلاّ لمعنى المصير إلى النّار كقوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } [ الأنبياء : 98 ، 99 ] وقوله { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود } [ هود : 98 ] وقوله { ونسوق المجرمين إلى جهنم وِرداً } [ مريم : 86 ] . على أن إيراد المؤمنين إلى النّار لا جدوى له فيكون عبثاً ، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر ممّا سمّاه فوائد .
ومنهم من تأوّل ورود جهنّم بمرورالصراط ، وهو جسر على جهنّم ، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سُرعة الاجتياز . وهذا أقل بُعداً من الذي قبله .
وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في « مسنده » والحكيمُ التّرمذي في « نوادر الأصول » . وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال : « يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون عنها بأعمالهم » الحديث في مرور الصراط .
ومن النّاس من لفق تعضيداً لذلك بالحديث الصحيح : أنه « لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النّار إلاّ تَحلة القسم » فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله تعالى : { وإن منكم إلاَّ واردها } وهذا محمل باطل ، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل ، وإنّما معنى الحديث : إن من استحق عذاباً من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النّار إلاّ ولوجاً قليلاً يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم ، أي التحلل منه . وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه ، فقوله « تحلة القسم » تمثيل .
ويروى عن بعض السلف روايات أنّهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية ، من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة ، وعن الحسن البصري ، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل .
وذكر فعل { نَذَرُ } هنا دون غيره للإشعار بالتحقير ، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم ، لأن في فعل الترك معنى الإهمال .
والحتم : أصله مصدر حتمه إذ جعله لازماً ، وهو هنا بمعنى المفعول ، أي محتوماً على الكافرين ، والمقضي : المحكوم به . وجُثِيّ تقدم .
وقرأ الجمهور { ثمّ تنَجِّي } بِفَتح النون الثانية وتشديد الجيم ، وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم ننجي من النار بعد ورود جميعهم إياها، الذين اتقوا فخافوه، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
"وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيّا" يقول جلّ ثناؤه: وندع الذين ظلموا أنفسهم، فعبدوا غير الله، وعصَوا ربهم، وخالفوا أمره ونهيه من النار، جثيا، يقول: بروكا على ركبهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم ننجي الذين اتقوا} الشرك والفواحش {ونذر الظالمين فيها جثيا} على ركبهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يُنَجِّي مَنْ كان مؤمناً، بعضهم قَبْلَ بعض، وبعضهم بَعْدَ بعض، ولكن لا يبقى من المؤمنين مَنْ لا ينجيهم. ويترك الكفار فيها بنعت الخيبة عن الخروج منها، وعند ذلك يشتدُّ عليهم البلاء، وتُطْبقُ عليهم أبوابُ جهنم، وينقطع منهم الرجاء والأمل. وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم؛ فزيادة التقوى توجِب لهم التعجيل في النجاة؛ فمن سابقٍ ومن لاحقٍ، ومن منقطع، ومن محترق... إلى كثيرٍ من الأصناف والألوان...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
النجاة: تخليص الواقع في الشيء.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: إذا مرّ الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي، بحسبهم، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم -وهي مواضع السجود- وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يومًا من الدهر:"لا إله إلا الله" وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الخلاص منها بعد ذلك مستبعداً، قال مشيراً إليه بأداة البعد: {ثم ننجي} أي تنجية عظيمة على قراءة الجماعة، ومطلق إنجاء على قراءة الكسائي، وكأن ذلك باختلاف أحوال الناس مع أن المطلق لا ينافي المقيد {الذين اتقوا} أي كانوا متقين منها بأن تكون عليهم حال الورود برداً وسلاماً {ونذر الظالمين} أي نترك على أخبث الأحوال الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها واستمروا على ذلك فكانوا في أفعالهم خابطين كالأعمى {فيها جثياً} كما كانوا حولها لا يهتدون إلى وجه يخلصون به منها.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وخولف بين قوله تعالى: {اتقوا} وقوله سبحانه: {الظالمين} ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردي فكأنه قيل: ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه، وفي إيقاع {نذر} مقابلاً لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضاً، قال الراغب: يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به. ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق وهو ورودهم النار وفعل الحق سبحانه وهو النجاة والدمار زماناً ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال: إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولاً فأولاً على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {ثمّ ننجي الذين اتّقوا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل. و {ثمّ} للترتيب الرتبي تنويهاً بإنجاء الذين اتّقوا وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جُثيّاً. فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم. وليس المعنى: ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نَجَوْا من الورود إلى النّار. وذكر إنجاء المتقين: أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين. والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل: ونذركم أيها الظالمون. ونذر: نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي (نذر) استغناء عنه بماضي (ترك)، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} في سورة الأنعام (91). فليس الخطاب في قوله وإن منكم إلاّ واردها} لجميع النّاس مؤمنهم وكافِرِهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم يُنْجوَن من عذابها، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مَساقاً واحداً، كيف وقد صُدّر الكلام بقوله {فوربك لنحشرنهم والشياطين} [مريم: 68] وقال تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} [مريم: 85، 86]، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين. فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 43] عقب قوله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]. فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء. وذكر فعل {نَذَرُ} هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبعد أن يردها الجميع يصطفي الله تعالى ممن وردها المؤمنين الثقاة، فينجيهم منها، ولذا يقول تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}. العطف ب {ثم} هنا للتفاوت البعيد بين النجاة التي كتبها الله للذين اتقوا، والصلي الذي كان لأولى الناس بالصلي في علم الله تعالى، والنجاة تكون للذين اتقوا العذاب ولم يشركوا بالله شيئا فلم يعبدوا الأوثان، ولم يفتنوا أحدا في دينه، ولم يكفروا بآيات الله تعالى ووحدانيته، وذكر الموصول يدل على أن الصلة وهي التقوى السبب في الإنجاء أو التنجية، والتنجية هي المبالغة في النجاة. هذا بالنسبة للمتقين، أما الكافرون فقال الله تعالى فيهم: {ونذر الظالمين فيها جثيا}، أي جاثين على ركبهم ذلا وفزعا ورعبا وألما، والجثي تصوير لحالهم بالحس الدال على أنهم في أشد الفزع والألم، و {نذر} معناها نتركهم، وعبر سبحانه وتعالى عن الكافرين ب {الظالمين}، لأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وإشراكهم، وظلموا الناس بفسادهم، وظلموهم بالفتنة والصد عن سبيل الله في معاملتهم للمخالفين لهم، وظلموا الحق بجحودهم مع رؤية آياته: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا...14} (النمل).