معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموت } . قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج : كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مر على دابة ميتة ، قال ابن جريج : كانت جيفة حمار بساحل البحر ، قال عطاء : في بحيرة طبرية ، قالوا : فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر ، فكان إذا مد البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها ، فما وقع منها يصير في البحر ، فإذا جزر البحر ورجع جاءت السباع فأكلن منها ، فما سقط منها يصير تراباً ، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها ، فما سقط منها قطعته الريح في الهواء ، فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السلام تعجب منها وقال : يا رب قد علمت لتجمعنها من بطون السباع وحواصل الطير ، وأجواف دواب البحر فأرني كيف تحييها لأعاين فأزداد يقيناً ، فعاتبه الله تعالى .

قوله تعالى : { قال أولم تؤمن قال بلى } . يا رب علمت وآمنت .

قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } . أي ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة ، أراد أن يصير له علم اليقين ، عين اليقين ، لأن الخبر ليس كالمعاينة . وقيل : كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال : ( ربي الذي يحيي ويميت ) قال نمرود : ( أنا أحيى وأميت ) فقتل أحد الرجلين ، وأطلق الآخر ، فقال إبراهيم : إن الله تبارك وتعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه ، فقال له نمرود : أنت عاينته ؟ فلم يقدر أن يقول نعم فانتقل إلى حجة أخرى ، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى . ( قال أولم تؤمن قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ) بقوة حجتي فإذا قيل : أنت عاينته ؟ فأقول : نعم قد عاينته . وقال سعيد بن جبير : لما اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له ، فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار ، فدخل داره وكان إبراهيم عليه السلام أغير الناس إذا خرج أغلق بابه ، فلما جاء وجد في داره رجلاً ، فثار عليه ليأخذه وقال له : من أذن لك أن تدخل داري ؟ فقال : أذن لي رب هذه الدار ، فقال إبراهيم : صدقت وعرف أنه ملك ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئت أبشرك بأن الله تعالى قد اتخذك خليلاً ، فحمد الله عز وجل ، وقال : فما علامة ذلك ؟ قال : أن يجيب الله دعاءك ويحيى الموتى بسؤالك ، فحينئذ قال إبراهيم : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ) أنك اتخذتني خليلاً ، وتجيبني إذا دعوتك .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن صالح ، أنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : ( رب أرني كيف تحيى الموتى ؟ قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ) ورحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " .

وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن وهب بهذا الإسناد مثله وقال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحيى الموتى " .

حكي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث : لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى ، وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا ؟

وقال أبو سليمان الخطابي : ليس في قوله " نحن أحق بالشك من إبراهيم " ، اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم ، لكن فيه نفي الشك عنهما ، يقول : إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بأن لا يشك ، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس ، وكذلك قوله : " لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " . وفيه الإعلام أن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة الشك ، ولكن من قبل زيادة العلم بالعيان ، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة مالا يفيد الاستدلال ، وقيل : لما نزلت هذه الآية قال قوم : شك إبراهيم ولم نبينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا القول تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه . قوله تعالى : ( أولم تؤمن ) معناه قد آمنت فلم تسأل ؟ ، شهد له بالإيمان كقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح

يعني أنتم كذلك ، ولكن ليطمئن قلبي بزيادة اليقين .

قوله تعالى : { قال فخذ أربعة من الطير } . قال مجاهد وعطاء وابن جريج : أخذ طاووساً وديكاً وحمامة وغراباً ، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه : ونسراً بدل الحمامة . وقال عطاء الخراساني : أوحى إليه أن خذ بطة خضراء ، وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكاً أحمر .

قوله تعالى : { فصرهن إليك } . قرأ أبو جعفر وحمزة فصرهن إليك ، بكسر الصاد أي قطعهن ومزقهن ، يقال صار يصير صيراً إذا قطع ، وانصار الشيء إنصاراً إذا انقطع . قال الفراء : هو مقلوب من صريت أصرى صرياً إذا قطعت ، وقرأ الآخرون : فصرهن ، بضم الصاد ومعناه أملهن إليك ووجههن ، يقال : صرت الشيء أصوره إذا أملته ، ورجل أصور إذا كان مائل العنق ، وقال عطاء : معناه أجمعهن واضممهن إليك . يقال : صار يصور صوراً ، إذا اجتمع ومنه قيل لجماعة النحل صور ، ومن فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار معناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذفه اكتفاءً بقوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ) لأنه يدل عليه ، وقال أبو عبيدة : فصرهن معناه قطعهن أيضاً ، والصور القطع .

قوله تعالى : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } . قرأ عاصم برواية أبي بكر جزءاً مثقالاً مهموزاً ، والآخرون بالتخفيف والهمزة ، وقرأ أبو جعفر مشددة الزاي بلا همز ، وأراد به بعض الجبال . قال بعض المفسرين : أمر الله إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها و يقطعها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ففعل ، ثم أمره أن يجعل أجزائها على الجبال . واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ، ويجعلها على أربعة أجبل ، على كل جبل ربعاً من كل طائر ، وقيل : جبل على جانب الشرق ، وجبل على جانب الغرب ، وجبل على جانب الشمال ، وجبل على جانب الجنوب . وقال ابن جريج والسدي : جزأها سبعة أجزاء ، ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن ثم دعاهن فقال : تعالين بإذن الله تعالى ، فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر ، وكل بضعة تصير إلى الأخرى ، وإبراهيم ينظر ، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأس ، ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعياً فكلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه ، وإن لك يكن تأخر ، حتى التقى كل طائر برأسه فذلك .

قوله تعالى : { ثم ادعهن يأتينك سعياً } . قيل المراد بالسعي الإسراع والعدو ، وقيل المراد به المشي دون الطيران كما قال الله تعالى : ( فاسعوا إلى ذكر الله ) أي فامضوا ، والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد من الشبهة لأنها لو طارت يتوهم متوهم أنها غير تلك الطير ، وأن أرجلها غير سليمة والله أعلم . وقيل السعي بمعنى الطيران .

قوله تعالى : { واعلم أن الله عزيز حكيم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

تلك هي القصة الأولى التي ساقها الله - تعالى كدليل على قدرته وعلى صحة البعث والنشور . أما القصة الثانية التي تؤكد هذا المعنى فقد حكاها القرآن في قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } أي : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن قال إبراهيم - عليه السلام - مخاطباً خالقه - سبحانه - : رب أرني بعيني كيف تعيد الحياة إلى الموتى .

وفي قوله : ( رب ) تصريح بكمال أدبه مع خالقه - عز وجل - فهو قبل أن يدعوه يستعطفه ويعترف له بالربوبية الحقة ، والألوهية التامة ، ويلتمس منه معرفة كيفية إحياء الموتى ، فهو لا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث - وحاشاه أن يفعل ذلك - فهو رسلو من أولى العزم من الرسل ، وإنما هو يريد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن مرتبة البرهان إلى مرتبة العيان ، فإن العيان يغرس في القلب أسمى وأقوى ألوان المعرفة والاطمئنان .

وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم - عليه السلام - أسبابا منها : أنه لما قال للنمرود { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أحب أن يترقى بأن يرى ذلك مشاهدة . وقد أجاب الخالق - عز وجل - على طلب إبراهيم بقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي : أتقول ذلك وتطلبه ولم تؤمن بأنىقادر على الإِحياء وعلى كل شيء ؟

فالجملة الكريمة استئناف مبنى على السؤال ، وهي معطوفة على مقدر ، والاستفهام للتقرير .

وهنا يحكى القرآن جواب إبراهيم على خالقه - عز وجل - فيقول : { قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي قال إبراهيم في الرد على سؤال ربه له { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بلى يا رب آمنت بك وبقدرتك وبوحدانيتك إيمانا صادقا كاملا ، ولكني سألت هذا السؤال ليزداد قلبي سكونا واطئمان وإيماناً لأن من شأن المشاهدة أن تغرس في القلب سكونا واطمئنان أشد ، وإيمانا أقوى ، وأنا في جميع أحوالي مؤمن كل الإِيمان بقدرتك ووحدانيتك يا رب العالمين .

قال القرطبي ما ملخصه : لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ، ولهذا جاء في الحديث " ليس الخبر كالمعاينة " قال الأخفش : لم يرد إبراهيم رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين . وقال الحسين : سأل ليزداد يقينا إلى يقينه .

وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم :

" نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق بالشك منه ، ونحن لا نشك فإبراهيم - عليه السلام - وسائر ألفاظه الآتية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الإِحياء والإِحياء متقرر ، - فسؤال إبراهيم إنما هو عن كيفية لا عن أصل القضية . . .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قال له { أَوَلَمْ تُؤْمِن } وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا ؟ قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين . و { بلى } إيجاب لما بعد النفي معناه : بلى آمنت . وقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي ليزداد سكوننا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة - أي علم المشاهدة - إلى علم الاستدلال الذي يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمانينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك . فإن قلت : بم تعلقت اللام في قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } قلت بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب .

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كان من جواب الخالق - عز وجل - على نبيه إبراهيم فقال : { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً } .

قوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي فاضممهن إليك - قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء - يقال : صاره يصوره ويصيره ، أي أماله وضمه إليه . ويقال - أيضاً صار الشيء بمعنى قطعه وفصله والمعنى : قال الله - تعالى - لإبراهيم : إذا أردت معرفة ما سألت عنه فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن كيلا تلتبس عليك بعد الإِحياء ، ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } أي ثم اجعل على كل مكان مرتفع من الأرض جزاء من كل طائر من تلك الطيور ثم نادهن يأتينك مسرعات إليك . والفاء في قوله { فَخُذْ } هي التي تسمى بالفاء الفصيحة لأنها تفصح عن شرط مقدر أي : إذا أردت ذفك فخذ .

وقوله : { مِّنَ الطير } متعلق بمحذوف صفة لأربعة أي فخذ أربعة كائنة من الطير ، أو متعلق بقوله ( خذ ) أي خذ من الطير . والطير اسم جمع - كرَكْب وسفر - وقل هو جمع طائر مثل تاجر وتجر . قالوا : وهذه الطيور الأربعة هي الطاووس والنسر والغراب والديك .

ومما قالوه في اختيار الطير لهذه الحالة : أن الطير من صفاته الطيران ، وأنه لا يستأنس بالإِنسان بل يطير بمرد رؤيته ، ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة .

وقوله : { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } معطوف على محذوف دل عليه قوله : { جُزْءًا } لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح والتقدير : فاذبحهن ثم اجعل . . إلخ . وقوله : { ثُمَّ ادعهن } أي قل لهن تعالين بإذن الله .

وقوله { يَأْتِينَكَ } جواب الأمر فهو في محل جزم ، { سَعْياً } منصوب على المصدر النوعي ، لأن السعي نوع من الإِتيان فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً :

قال الفخر الرازي : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم قطع أعضاءهاه ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض - وفعل كما أمره الله ، ثم قال لهن تعالين بإذن الله فأقبلن مسرعات إليه بعد أن انضم كل جزء إلى أصله - ثم قال : ولكن أبا مسلم أنكر ذلك وقال : " إن إبراهيم لما طلب إحياء الميت من الله - تعالى - أراه الله مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك : الإِمالة والتمرين على الإِجابة . أي : فعود الطوير الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعياً ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة . . "

والذي يطمئن إليه القلب هو رأي الجمهور لأن الآية مسوقة لتحقيق معجزة تجري على يد إبراهيم وهي إحياء الموتى بالمشاهدة كما جرى إحياء الرجل الذي أماته الله مائة عام والذي جاء ذكره في الآية السابقة ، ولأن ظاهر الآية صريح في أنه حصل تقطيع لأجزاء الطير ثم وضع كل جزء منها على مرتفع من الأرض ، وما دام الأمر كذلك فلا يجوز حمل المعنى على غير هذا الظاهر ، كما لا يجوز تحميل الألفاظ ما لا تحتمله . وما ذهب إليه أبو مسلم هو قول بلا دليل فضلا عن مخالفته لما عليه إجماع المفسرين .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي واعلم أن الله - تعالى - غالب على أمره ، قاهر فوق عباده ، حكيم في كل شئونه وأفعاله وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا أبلغ الأدلة والشواهد على قدرة الله - تعالى - وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع ، وعلى أن ما أخبر به من صحة البعث والنشور حق لا ريب فيه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

258

ثم تجيء التجربة الثالثة . تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن :

( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي . قال : فخذ أربعة من الطير ، فصرهن إليك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .

إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية . وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم ، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل . . حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين !

إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ؛ وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان . . إنما هو أمر آخر ، له مذاق آخر . . إنه أمر الشوق الروحي ، إلى ملابسة السر الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي . ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل ، الذي يقول لربه ، ويقول له ربه . وليس وراء هذا إيمان ، ولا برهان للإيمان . ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها ، ويتنفس في جوها ، ويعيش معها . . وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان .

وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع :

( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي ) . .

لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ؛ واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف . ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله . ولكنه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأواه الحليم المنيب !

ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة :

( قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ؛ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ؛ ثم ادعهن يأتينك سعيا . واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .

لقد أمره أن يختار أربعة من الطير ، فيقربهن منه ويميلهن إليه ، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن . وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن ، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة . ثم يدعوهن . فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى ، وترتد إليهن الحياة ، ويعدن إليه ساعيات . . وقد كان طبعا . .

ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه . وهو السر الذي يقع في كل لحظة . ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه . إنه سر هبة الحياة . الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن ؛ والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد .

رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة ، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى ، وتعود إليه سعيا !

كيف ؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه . إنه قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته . إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه ، لأنه أكبر منهم ، وطبيعته غير طبيعتهم . ولا حاجة لهم به في خلافتهم .

إنه الشأن الخاص للخالق . الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين . فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب . وضاعت الجهود سدى ، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )

العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر . واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام( {[2538]} ) ؟ فقال الجمهور : إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في إحياء الله الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة . وترجم الطبري في تفسيره فقال : وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن آية أرجى عندي منها( {[2539]} ) ، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال : { رب أرني كيف تحيي الموتى } ؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «نحن أحق بالشك من إبراهيم » الحديث( {[2540]} ) . ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث . وقال : إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء ؟ وأما من قال : بأن إبراهيم لم يكن شاكاً ، فاختلفوا في سبب سؤاله . فقال قتادة : إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال . وقال الضحاك : نحوه ، قال : وقد علم عليه السلام أن لله قادر على إحياء الموتى ، وقال ابن زيد : رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، وقال ابن إسحاق ، بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له : أنا أحيي وأميت ، فكر في تلك الحقيقة والمجاز( {[2541]} ) ، فسأل هذا السؤال . وقال السدي وسعيد بن جبير : بل سبب هذا السؤال أنه بشر بأن الله اتخذه خليلاً أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة ، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره ، وقال سعيد بن جبير : { ولكن ليطمئن قلبي } يريد بالخلة .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما ترجم به الطبري عندي مردود( {[2542]} ) ، وما أدخل تحت الترجمة متأول ، فأما قول ابن عباس : هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك ، ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله : { أو لم تؤمن } ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث ، وأما قول عطاء بن أبي رباح : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت ، به ، ولهذا قال النبي عليه السلام : «ليس الخبر كالمعاينة »( {[2543]} ) ، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك ، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم( {[2544]} ) .

والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال : ذلك محض الإيمان( {[2545]} ) إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام . وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع ، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به ، يدلك على ذلك قوله : { ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً( {[2546]} ) ، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكاً ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول . نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا ، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله ، وقد تكون { كيف } خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه ، { كيف } نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، و { كيف } في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول له المكذب : أرني كيف ترفعه ؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدلي ، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف ؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له : { أَوَلَمْ تؤمن قال بلى } ، فكمل الأمر وتخلص من كل شك ، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمانينة .

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تؤمن } معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فصل إحياء الموتى ، والواو واو حال دخلت عليه ألف التقرير( {[2547]} ) ، و { ليطمئن } معناه ليسكن عن فكره ، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة ، كما قال عليه السلام : «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً » ، الحديث ، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد . والفكر في صورة الإحياء غير محظورة ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، فأراد الخليل أن يعاين ، فتذهب فكره في صورة الإحياء ، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود : أنا أحيي وأميت ، وقال الطبري : معنى { ليطمئن } ليوقن . وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير ، وحكي( {[2548]} ) عنه ليزداد يقيناً وقاله إبراهيم وقتادة . وقال بعضهم : لأزداد إيماناً مع إيماني .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر ، وإلا فاليقين لا يتبعض ، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك ، والطاووس ، والحمام ، والغراب ، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول ، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد ، وقال ابن عباس : مكان الغراب الكركي( {[2549]} ) .

وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها( {[2550]} ) ثم قطعها قطعاً صغاراً وجمع ذلك مع الدم والريش ، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ، ثم قال تعالين بإذن الله( {[2551]} ) ، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولاً وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعياً( {[2552]} ) حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله تعالى ، وقرأ حمزة وحده : «فصِرهن إليك » بكسر الصاد( {[2553]} ) ، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته ، ومنه قول ذي الرمة : [ الرجز ]

صِرْنَا بِهِ الحُكْمَ وَعَنَّا الحَكَمَا . . . ( {[2554]} )

ومنه قول الخنساء : [ السريع ]

فلو يلاقي الذي لاقيتُه حضنٌ . . . لظلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تنصارُ( {[2555]} )

أي تنقطع ويقال أيضاً صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

يصُورُ عنوقَها أحوى زنيمٌ . . . لَهُ صَخَبٌ كَمَا صَخِبَ الْغَرِيمُ( {[2556]} )

ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور ، وعن الخنا نور( {[2557]} ) ، فهذا كله في ضم الصاد ، ويقال أيضاً في هذين المعنيين ، : القطع والإمالة : صرت الشيء بكسر الصاد أصيره ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

وفرعٌ يَصيرُ الْجِيدَ وَجْفٌ كأَنَّهُ . . . عَلى اللِّيتِ قِنْوانُ الكرومِ الدَّوالِحِ( {[2558]} )

ففي اللفظة لغتان قرىء بهما ، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية { صرهن } معناه : قطعهن ، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية( {[2559]} ) معناها قطعهن ، وقاله الضحاك ، وقال أبو الأسود الدؤلي : هي بالسريانية ، وقال قتادة : { صرهن } فصلهن ، وقال ابن إسحاق : معناه قطعهن ، وهوالصور في كلام العرب ، وقال عطاء بن أبي رباح : { فصرهن } معناه اضممهن إليك( {[2560]} ) . وقال ابن زيد معناه اجمعهن ، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن .

قال القاضي أبو محمد : فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة . فقوله { إليك } على تأويل التقطيع متعلق بخذ . وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب { صرّهنّ } ، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن( {[2561]} ) . وقرأ قوم «فصُرَّهن » بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدَّهن . ومنه صرة الدنانير . وقرأ قوم «فصِرَّهن » بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوَّتَ ، ذكره النقاش( {[2562]} ) . قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل ، وإنما بابه يفعُل بضم العين كشد يشُد ونحوه .

لكن قد جاء منه نمَّ الحديث يَنمُّه ويُنمّه وهر الحرب يَهرها ويُهرها( {[2563]} ) ومنه قول الأعشى :

لَيَعْتَوِرَنْكَ الْقَوْلَ حَتَّى تهرَّهُ . . . ( {[2564]} )

إلى غير ذلك في حروف قليلة . قال ابن جني ، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة .

قال القاضي أبو محمد : وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس ، ومنه الشاة المصراة( {[2565]} ) ، واختلف المتأولون في معنى قوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } ، فروى أبو حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءاً على كل ربع من أرباع الدنيا( {[2566]} ) كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة . وفي هذا القول بعد ، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل( {[2567]} ) على كل جبل جزءاً من ذلك المجموع المقطع ، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها . وقرأ الجمهور «جزءاً » بالهمز ، وقرأ أبو جعفر «جزّاً » بشد الزاي في جميع القرآن . وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه . وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها . قالا : وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء . وقال مجاهد : بل أمر أن يجعل على كل جبل يلية جزءاً . قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال بعدد ، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله «إياه تفريق ذلك فيها ، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة .

قال القاضي أبو محمد : وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا ، فلن يحيط بذلك بصره ، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيداً متمكناً . والله أعلم أي ذلك كان . ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه ، ويرى كيف التأمت ، وكذلك صحت له العبرة ، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله ، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه . ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه { سعياً } ، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه ، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته . ولو جاءته مشياً لزالت هذه القرينة ، ولو جاءت طيراناً لكان ذلك على عرف أمرها ، فهذا أغرب منه . ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء .


[2538]:- اختلف العلماء في الإجابة عن هذا السؤال: أصدر عن شك أم لا ؟، وجمهور المفسرين أن المسألة لم تعرض من جهة الشك وإنما كانت من قبيل الاستزادة في العلم، أي الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين، وطمأنينة القلب تحصل بالثاني أكثر مما تحصل بالأول، وقد قال أعلم الخلق بالحق: [ربِّ زدني علما] وحديث أبي هريرة مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، لا على ثبوته كما ظنه بعض الناس اغترارا بظاهره، ولا يخفى أن مثل هذا الشك كُفر، وأن الأنبياء ليس للشيطان عليهم سلطان، قال أبو (ح): «ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يُشين المعتقد، لأن ذلك سؤال أن يُريه عياناً كيفية إحياء الموتى – والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه وهو الإحياء وتقرره والإيمان به» ا. هـ. فالتعقيب على الإمام الطبري رحمه الله واقع موقع الصواب، والله أعلم. وقد قال بان اسحق إن السبب في السؤال هو قضية النمروذ الذي قال: أنا أحيي وأميت، وما تبع ذلك من حوار. ووضح أبو (ح) ذلك فقال: لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه واستدل به على نمروذ طلب من الله تعالى رؤية ذلك». ا. هـ.
[2539]:- قول ابن عباس هذا خرَّجه عبد الرزاق وابن جرير ورجحه، والحاكم وصححه.
[2540]:- خرجه البخاري ومسلم. ورواه ابن ماجه، وهو في البخاري في كتاب "أحاديث الأنبياء".
[2541]:- أي حقيقة الإحياء والإماتة. في كلام إبراهيم عليه السلام وحجته، ومجازها الذي لجأ إليه النمروذ.
[2542]:- مناقشة القاضي رحمه الله للإمام الطبري مناقشة علمية صحيحة، وذلك هو ما يجب في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، انظر "الشفا" للقاضي عياض فقد بسط القول في هذا الموضوع ووفاه حقه من الدراسة الموفقة. والله أعلم.
[2543]:- رواه الإمام أحمد، وابن حبان عن ابن عباس مرفوعاً.
[2544]:- قال ذلك عليه الصلاة والسلام من باب الأدب، لأن إبراهيم عليه السلام بمثابة الأب.
[2545]:- رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة بلفظ: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه – إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه ؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان). ورواه عن عبد الله بن مسعود قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان). وإنما كانت الوسوسة محض الإيمان، لأن الشيطان إذا يئس من كفر من صح إيمانه قصده بالوسوسة ليشغل سره بحديث النفس، ويكدر عليه أفعاله، فكأن سبب الوسوسة إنما هو محض الإيمان، والله أعلم.
[2546]:- وقيل: العصمة ثابتة على الإطلاق في الصغائر والكبائر.
[2547]:- الظاهر أن الواو للعطف أُخرت عن الهمزة، وأن التقرير منسحب على الجملة المنفية فقط، كقوله تعالى: [ألم نشرح لك صدرك ؟] أي: قد شرحنا لك صدرك. وكقوله تعالى: [أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا] أي: قد جعلنا حرما آمنا. وكقول الشاعر: ألَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركِبَ المطَايَـا وأنْدى العَالَمِين بُطُون رَاح ؟ أي: أنتم خير من ركب إلخ. وترجح أن الواو للعطف لأنها لو كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب، وإذ ذاك لا بد لها من عامل فلا تكون الهمزة للتقرير ودخلت على الجملة الحالية – إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها، وعلى ذي الحال، ويكون التقدير: أسألت ولم تؤمن ؟ - راجع البحر المحيط 2-298.
[2548]:- يعني أن الطبري حكى عن سعيد بن جبير القولين – الأول: "ليطمئن قلبي: ليوقن". والثاني: "ليطمئن قلبي: ليزداد إيمانا".
[2549]:- الكُركي: طائر قليل اللحم، صلب العظم، أغبر اللون، طويل العنق والرجلين، أبتر الذنب، يأوي إلى الماء أحيانا، في خده لمعات سود، وجمعه: كَراكي.
[2550]:- أي ذبحها – والذكاة اسم مصدر من ذكَّى، وفي الحديث: (ذكاة الجنين من ذكاة أمه).
[2551]:- الأمر أمر تكوين لا أمر طاعة، لأن أمر الطاعة لا يكون إلا بعد وجود المأمور المتعبد.
[2552]:- سعيا: عدواً – وليس مشيا ولا طيرانا، وذلك أغرب وأقرب إلى قصد إبراهيم وإجابة دعائه.
[2553]:- يقال: صار يصور صورا، بمعنى: قطع وأمال – ويقال: صار يصير صيرا كذلك، أي بمعنى القطع والإمالة، وهما قراءتان من القراءات السبع المعروفة، إلا أنه إذا فسرنا المادة في الآية بالإمالة فإن كلمة (إليك) متعلقة بالفعل (خُذ).
[2554]:- جاء في اللسان: قال ابن بري: هذا الرجز الذي نسبه الجوهري للعجَّاج ليس هو للعجّاج، وإنما هو لرؤبة يخاطب الحَكَم بن صخر وأباه صخر بن عثمان، وقبله: أبلـغ أبا صخر بيانا مُعلمــا صخْرَ بن عثمان بن عمرو وابن مــا صُرْنـا بِـهِ الحُكْـمَ وأعْيـَا الحَكَمــا أي: قطعنا به ذلك. وقد روى"وعنا" بدلا من "أعيا".
[2555]:- تَنْصار: مضارع انصار، وانصار: مطاوع أصار – يقال: أصار الشيء فانصار، أي أماله فمال. فمعنى تنصار: تَنْهَدُّ وتتفرَّق وتتقطَّع – والشمّ: العالية المرتفعة. وحَضَنَ جبلٌ عالي في أعالي نجد، وفي المثل "أنجدَ من رأى حَضَنا" أي: دخل نجدا من رأى هذا الجبل.
[2556]:- البيت للشاعر المُعَلَّى بن جمال العبدي، وقد رواه ابن جرير الطبري: وجاءت خُلْعَةٌ دُهْسٌئ صَفَايا يصُور عُنُوقَها أحوى زنيمُ وعُنوق: جمع عَناق، وهي الأنثى من أولاد المعيز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول، وتجمع على أعنق وعُنُق وعُنُوق – وأحوى معناه: أسود – والزنيم: الملحق بقوم ليس منهم. فكأنه فيهم لصيق زائد كالزنمة، وهو مأخوذ من زنمتي العنز وهما زائدتان في الحلق تحت لحيته. الخلعة: بضم الخاء وكسرها خيار الشاءِ، ودُهِس العنز: تغير لونه إلى السواد فهو أدهس وهي دهساء، والجمع دُهْسٌ، والصفايا: غزيرة اللبن. والبيت بعد ذلك في وصف ذكر المعز.
[2557]:- صُور: جمع أصور صوراء. ونور: جمع نُوُور بالإشباع، والأصل نُوُر بضمتين كعُنُق فكرهوا الضمة على الواو فقيل: نُوُر، والنوُور المرأة النَّفور من الريبة. وفي بعض النسخ "زُور" بدلا من "نور" من الزَّوَر وهو الميل والبعد عن الخَنا.
[2558]:- البيت في وصف الشَّعْر – والفرع هو الشَّعْر التام. وهو أصلا ما تفرع من كل شيء، ومعنى "يصير الجيد" يميل الجيد – والوحف: الشعر الذي غزر واسودَّ – واللّيت: صفحة العنق مُثَنَّاه: ليتان، وجمعه: أليات – والقِنو: العذق بما فيه من الرطب. وهو بكسر القاف وضمها، وجمعه أقناء وقنوان – والكرم: العنب – وجمعه: كروم – ودلح: مشى بحمله غير منبسط الخطو لثقله، ودلحت السحابة: أبطأت في سيرها من كثرة الماء فهي دالحٌ – والجمع دُلَّحٌ ودوالحٌ.
[2559]:- النبط جيل من العجم منزلهم بين العراقين، سُمُّوا بذلك لكثرة النبط عندهم وهو الماء. ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم، ومنه كلمة "نبطية" أي عامية، والواحد نبطي ونباطي مثلث النون.
[2560]:- الضم والجمع والإمالة بمعنى واحد.
[2561]:- أي على التأويل الثاني وهو تأويل الإمالة والضم.
[2562]:- حاصله أن القراءات هنا، ستّ: فصِرْهن إليك، فصُرهن إليك قراءتان سبعيتان – فصُرَّهن إليك، فصِرَّهن إليك بضم الصاد وكسرها مع شد الراء فيهما – فصُرُّهن إليك، وصَرِّهن إليك، بضم الصاد في الأولى وفتحها في الثانية مع شد الراء وضمها في الأولى "مع احتمال فتح الراء وكسرها" في الثانية، وهاتان الأخيرتان رويا عن عكرمة.
[2563]:- هرَّ الحرب بالراء كرهها.
[2564]:- تمامه: وتَعْلَمَ أنب عَنْكَ لَسْتُ بِمُلْيَم يعتوره: يتداوله – يقال: اعتوروه وتعاوروه: تداولوه فيما بينهم. وفي رواية : ليستدرجنك، والمعنى: ليبلغنك قولي من كل ناحية وليتركنك تدرج على الأرض حتى تكره الكلام وتعلم أني غير عاجز عن الانتقام.
[2565]:- أي: ومن هذا المعنى الشاة المصراة، ويقال صَرى الشاة إذا ترك حلبها ليكثر اللبن في ضرعها فهي محبوسة لذلك.
[2566]:- تفسير الجبل بذلك بعيد من لفظ الآية الكريمة ومُناف لمفهوم اللغة.
[2567]:- القول الذي يقول: إن ذلك أربعة أجبل أو سبعة أجبل لا دلالة على صحته، ولا يؤيده سياق الآية، لأن الله سبحانه قال: [على كل جَبَل]، وكلُّ تدل على الإحاطة والشمول، وليس جائزا «كلُّ جبل في الدنيا" فلم يبق إلا ما قاله الإمام الطبري من أن المراد كل جبل يعرفه إبراهيم ويصل إليه وقت تكليفه بتفريق ذلك»، وهو رأي جيد، ومتمكن، كما قاله الإمام ابن عطية، وقد روى أبو (ح) عن مجاهد قوله: العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف، أي: يليك، أو: بحضرتك – دون مراعاة عدد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

معطوف على قوله : { أو كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] ، فهو مثال ثالث لقضية قوله : { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الآية ومثال ثان لقضية { أو كالذي مر على قرية } فالتقدير : أو هو كإبراهيم إذ قال رب أرني إلخ . فإنّ إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروري ، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس .

وانتصب { كيف } هنا على الحال مجردةً عن الاستفهام ، كانتصابها في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] .

وقوله : { أولم تؤمن } الواو فيه واو الحال ، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة ، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله : { أرني } والتقدير : أأرِيك في حال أنّك لم تؤمن ، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك ، فقوله : { بلى ولكن ليطمئن قلبي } كلام صدر عن اختباره يقينَه وإلفائه سالماً من الشك .

وقوله : { ليطمئن قلبي } معناه لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشُبه عن العقل ، وذلك أنّ حقيقة يَطمئن يسكن ، ومصدره الاطمئنان ، واسم المصدر الطُّمَأنِينَة ، فهو حقيقة في سكون الأجسام ، وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفاء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردّد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة ، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساوياً للحقيقة ، يقال اطمأنّ بَالَهُ واطمأنّ قلبه .

والأظهر أنّ اطمأن وزنه افعلَلَ وأنّه لا قلب فيه ، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة ، وهذا قول أبي عمرو وهو البيِّن إذ لا داعي إلى القلب ، فإنّ وقوع الهمزة لا ما أكثر وأخف من وقوعها عيناً ، وذهب سيبويه إلى أنّ اطْأمَنّ مقلوب وأصله اطْمَأنّ وقد سمع طَمْأنْتُه وطَأْمَنْتُه وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة ، والذي أوجب الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طَمَن .

والقلبُ مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنّما ذلك للفكر ، وأراد بالاطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دلّه الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين .

وقوله : { فخذ أربعة من الطير } اعلم أنّ الطير يطلق على الواحد مرادفاً لطائر ؛ فإنّه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة ، ولا شك في هذا الإطلاق ، وهو قول أبي عبيدة والأزهري وقُطرب ولا وجه للترّدد فيه ، ويطلق على وجمعه أيضاً وهو اسم جمع طائر كصحْب وصاحب ، وذلك أنّ أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع .

وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أنّ الأربعة مختلفة الأنواع ، والظاهر أنّ حكمة التعدّد والاختلاف زيادة في تحقّق أنّ الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض ، فلذلك عدّدت الأنواع ، ولعلّ جعلها أربعة ليكون وضعُها على الجهات الأربع : المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلاّ يظنّ لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء ، ويجوز أنّ المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر ، أي خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهنّ ، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران ، فجعل ذلك آية على أنَّهنّ أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة ، لئلا يظن أنّهن لم يمتن تماماً .

وذكر كل جبل يدل على أنّه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأنّ وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء ؛ فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسِرة التناول .

والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية ، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع ، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيِّء ، وبعضها تعتصم به الناس من العدوّ كما قال السَّمَوْأل :

لنا جبل يحتلّه من نجيره *** منيع يردّ الطَّرفَ وهو كليل

ومعنى { صرهنّ } أدنِهن أو أيلهن يقال صاره يصُوره ويصيره بمعنًى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب ، فعن عكرمة أنّه نبطي ، وعن قتادة هو حبشي ، وعن وهب هو رومي ، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنّها لم ينتقل جزء منها عن موضعه .

وقوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } عطف على محذوف دلّ عليه قوله { جزءاً } لأن تجزئتهن إنّما تقع بعد الذبح . فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ .

وقرأ الجمهور { فصُرهن } بضم الصاد وسكون الراء من صاره يُصوره ، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب { فصِرهن } بكسر الصاد من صار يصير لغة في هذا الفعل .

وقرأ الجمهور { جُزْءاً } بسكون الزاي وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي ، وهما لغتان .