قوله : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي( {[8583]} ) كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى ) [ 259 ] .
" إذ " في موضع نصب بمعنى( {[8584]} ) : " واذكر " .
وقيل : هو معطوف على ما( {[8585]} ) قبله لأن قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِي حَاجَّ ) : " ألم تر بقلبك يا محمد ، فتذكر الذي حاج ، وتذكر إذ قال إبراهيم( {[8586]} ) " . قال قتادة : " مر إبراهيم عليه السلام على دابة قد تقسمتها السباع والدواب والطير والرياح ، فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ ( {[8587]} ) " . وكذلك قال الضحاك( {[8588]} ) .
وقال ابن زيد : " مر إبراهيم بحوت نصفه في [ البر ، ونصفه في البحر ]( {[8589]} ) ، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله ، وما كان في البر فدواب البر تأكله . فقال له الخبيث الشيطان( {[8590]} )/يا إبراهيم : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال إبراهيم : ( رَبِّ أَرِنِي( {[8591]} ) كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) ؟ ، ليرى ذلك/عياناً( {[8592]} ) " .
ومعنى ( لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) : أي ليطمئن إلى ما تَاقَ إليه من العيان لا أنه شك دخل عليه( {[8593]} ) .
وقال السدي : " لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه عز وجل( {[8594]} ) أن يأذن له فيبشر( {[8595]} ) إبراهيم عليه السلام بذلك ، فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس هو في البيت فدخل داره . وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم أغير الناس يغلق بابه إذا خرج ، فلما جاء وجد في داره رجلاً ثانياً ، فبادر إليه ليأخذه ، /وقال له : من أذن لك أن تدخل داري ؟ فقال له ملك الموت : أذن لي رب( {[8596]} ) هذه الدار فقال إبراهيم : صدقت ، وعرف أنه ملك ، قال له : من أنت ؟ قال : ملك الموت ، جئت أبشرك أن الله( {[8597]} ) قد اتخذك خليلاً ، فحمد الله تعالى ، وقال : يا ملك( {[8598]} ) الموت ، أرني الصورة التي تقبض فيها( {[8599]} ) أنفاس الكفار ، فقال : [ يا إبراهيم ، لا تطيق ]( {[8600]} ) ذلك ، قال : بلى . فعرض عليه فإذا هو برجل [ أسود ينال ]( {[8601]} ) رأسه السماء ، يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا صورة رجل( {[8602]} ) أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار( {[8603]} ) . فغشي( {[8604]} ) على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق ، وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى فقال : يا ملك( {[8605]} ) الموت ، لو لم يلق الكافر من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ذلك ، فأرني( {[8606]} ) كيف تقبض أنفاس المؤمنين ، قال : فَأَعْرِضْ . فَأَعْرَض( {[8607]} ) إبراهيم عليه السلام( {[8608]} ) ثم التفتَ فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً ، وأطيبهم ريحاً في ثياب بيض . قال : يا ملك( {[8609]} ) الموت ، لو لم يكن للمؤمن عند( {[8610]} ) ربه عز وجل من قرة العين والكرامة إلا صورتك/ هذه لكان يكفيه . فانطلق ملك الموت وقام إبراهيم صلى الله [ على محمد( {[8611]} ) و " عليه وسلم يدعو ربه ، يقول : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك . قال : أو لم تؤمن بأني خليلك ؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بذلك( {[8612]} ) " .
وقال ابن عباس : " ما في القرآن آية أرجى عندي منها( {[8613]} ) " ، يريد أن إبراهيم دخل قلبه الشك ، فنحن آكد أن يعترضنا ذلك( {[8614]} ) .
وقال عطاء بن( {[8615]} ) أبي رباح : " دخل قلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يدخل قلوب الناس( {[8616]} ) " .
وروى مالك عن الزهري أن ابن المسيب وأبا عبيدة أخبراه عن أبي هريرة أن النبي( {[8617]} ) عليه السلام قال : " رَحِمَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ ، نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْهُ ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) ، وَقَالَ : ( لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) " ( {[8618]} ) .
واختار الطبري( {[8619]} ) هذا القول لرواية أبي( {[8620]} ) هريرة لهذا الخبر عن النبي [ عليه السلام ]( {[8621]} ) لأن الشيطان يعرض لجميع الخلق .
وقد قال النبي [ عليه السلام ]( {[8622]} ) : " ذَلِكَ مِنْ مَحْضِ الإِيمَانِ " ( {[8623]} ) .
وهذا القول من نبي الله صلى الله عليه وسلم إنما هو على التواضع والتذلل لله ، ونفى التكبر( {[8624]} ) كما قال : " لاَ تُفَضِّلُونِي( {[8625]} ) عَلَى يُونُسَ " ( {[8626]} ) . ويعيذه( {[8627]} ) الله من الشك الذي يدخل في قلوب المذنبين المؤمنين .
ويجوز أن يكون قوله : " نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ " ، يعني به أمته ، كأنه صلى الله عليه وسلم يعذرهم فيما يوسوس [ به إليهم الشيطان ]( {[8628]} ) . وقد عفا الله عما يوسوس به الشيطان في قلوب المؤمنين إذا لم يبدوه ولم يعتقدوه .
وقد قال سعيد بن( {[8629]} ) جبير : " معنى ( لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) : ليزداد يقيناً( {[8630]} ) " .
وعن( {[8631]} ) ابن عباس : " ليطمئن قلبي " في إجابتك إياي إذا( {[8632]} ) دعوتك بأمرٍ وسألتك( {[8633]} ) فيه( {[8634]} ) " . ولم يرد أن إحياء( {[8635]} ) الموتى يطمئن به .
قال أبو إسحاق : " ولم( {[8636]} ) يكن شاكاً ، ولكن أراد مشاهدة ذلك عياناً ليزداد يقيناً ، فليس الخبر كالمعاينة( {[8637]} ) " .
قوله : ( فَخُذَ اَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ ) [ 259 ] .
قال مجاهد/وابن جريج وابن زيد : " أخذ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة " ( {[8638]} ) .
وجعل ابن عباس الكُرْكِيَّ( {[8639]} ) في موضع الغراب( {[8640]} ) .
قوله : ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) [ 259 ] .
من ضم( {[8641]} ) فمعناه : أضممهن إليك ووجههن إليك( {[8642]} ) ، يقال : / " صُرْ وَجْهَكَ إِلَيَّ " أي أقبل به إلي ، ووجهه إلي . قال ذلك الكسائي .
وفي الكلام حذف : " وقطعهن بعد الضم " ( {[8643]} ) .
وقال مجاهد : " ( فَصُرْهُنَّ ) : انتفهن بريشهن ولُحُومِهِنَّ " ( {[8644]} ) .
وقال أبو عبيدة : " صِرت [ بالكسر : قطعت ، وصُرت ]( {[8645]} ) بالضم : جمعت " ( {[8646]} ) .
وقيل : الكسر والضم بمعنى واحد ، وهو ما ذكرنا( {[8647]} ) .
وقيل : معنى الكسر : قطعهن( {[8648]} ) .
/ قال أبو حاتم : يقال( {[8649]} ) : صار( {[8650]} ) ، إذا قطع( {[8651]} ) .
ويكون في الكلام تقديم/ وتأخير على هذا التفسير . ومعناه : ( فَخُذَ اَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، أي فقطعهن( {[8652]} ) .
وقد قال عطاء : " ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) : / أضممهنَّ( {[8653]} ) إليك " .
وقال ابن( {[8654]} ) زيد : " أجمعهن " ( {[8655]} ) .
وقال( {[8656]} ) قتادة : " أمر أن يذبحن ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ثم يجزئهن على أربعة أجبل " ( {[8657]} ) .
قال ابن جريج : " جعل لُحُومَهُنَّ وريشهن على سبعة أجبل وهي الأجبال التي رأى الطير والسباع [ ذهبت فيها ، وهن ]( {[8658]} ) اللواتي أكلن من لحم الجيفة التي كانت سبب سؤاله ، وأمسك إبراهيم [ صلى الله عليه وسلم ]( {[8659]} ) عند نفسه رؤوسهن ثم دعاهن بإذن الله عز وجل ، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير( {[8660]} ) إلى الريشة الأخرى ، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضها إلى بعض . فلما تتامت عليه في الهواء( {[8661]} ) انقضت( {[8662]} ) عليه فوصلت كل جثة إلى الرأس الذي [ في( {[8663]} ) يده( {[8664]} ) ] " .
قوله : ( وَاعْلَمَ اَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ 259 ] .
أي لا يمتنع [ عليه ما أراد( {[8665]} ) ، حكيم في تدبيره .