هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث .
في العامل في " إذْ " ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنه قال : " أَوَلَمْ تُؤْمِن " ، أي : قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك .
والثاني : أنه " أَلَمْ تَرَ " أي : ألم تر إذ قال إبراهيم .
والثالث : أنه مضمرٌ تقديره : واذكر قاله الزجاح ف " إِذْ " على هذين القولين مفعولٌ به ، لا ظرفٌ . و " ربِّ " منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذفَتْ ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِف حرفُ النداءِ .
وقوله : " أَرِنِي " تقدَّم ما فيه من القراءات ، والتوجيه في قوله : { وَأَرِنَا } [ البقرة :128 ] والرؤية هنا بصرية تتعدَّى لواحدٍ ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل ، أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأولُ ياءُ المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و " رأى " البصرية تُعَلَّق ، كما تعلق " نَظر " البصرية ، ومن كلامهم : " أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هاهنا " .
و " كَيْفَ " في محلِّ نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على التشبيه بالحال ، كما تقدَّم في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة :28 ] . والعاملُ فيها " تُحيي " وقدَّره مكي{[4404]} : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنًى ، لا إعرابٍ .
قال القرطبيُّ{[4405]} : الاستفهامُ بكيف ، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر الوجوه عند السائل ، والمسؤول ؛ نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا : ومتى قلت : كيف ثوبُكَ ؟ وكيف زيدٌ ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله ، وقد تكون " كَيْفَ " خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف ، نحو قولك : كيف شِئتَ فكُنْ ، ونحو قول البخاريّ : " كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي " ، و " كَيْفَ " في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء ، والإحياءُ متقرِّرٌ ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء ، يعلم أنها لا تصح ؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ ؛ مثاله أَنْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذِّب له : أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة ، ومعناها تسلِيمٌ جدلي ، كأنه يقول : افرِض أَنَّكَ ترفعه ، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام هذا الاشتراك المجازي ، خلص اللهُ له ذلك ، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة ، فقال له : " أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟ قال : بَلَى " فكمل الأَمر ، وتخلص من كُلِّ شكٍّ .
فإِن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً ، بل قال : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } [ البقرة :259 ] ، وهاهُنَا سمَّى إبراهيم ، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ ؟ !
فالجواب{[4406]} : قال ابن الخطيب رحمه الله : والسببُ فيه : أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ ، بل قال { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة :259 ] ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في نفسه ، وإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام حفظ الأَدب ، ورَاعاهُ ؛ فقال أَوَّلاً " رَبِّ " ثُمَّ دعا فقال : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في الطيور .
قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان :
أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي ، قَرَّره ؛ كقول القائل : [ الوافر ]
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا *** وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ{[4407]}
و{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شرحنا .
والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دخلت عليها ألفُ التقرير ، قال ابن عطية ؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانت كذلك ، استدعَتْ ناصباً ، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بُدَّ من تقديره ؛ والتقديرُ " أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ " ، فالهمزةُ في الحقيقة ، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ . وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهرُ الأَوَّلُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى .
وقوله : " بلى " جوابٌ للجملة المنفيَّة ، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا بالمعنى ، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة :6 ] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ .
قوله : " لِّيَطْمَئِنَّ " اللامُ لامُ كَيْ ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها ، بإضمار " أَنْ " ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد " لكنْ " تقديرُه : ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان ، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر ، قبل " لكنْ " ؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ ، والتقديرُ : بلى آمنْتُ ، وما سألتُ غير مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً .
قال السُّدِّيُّ ، وابن جبير : " أَوَلَمْ تُؤْمِن " بأَنَّكَ خليلي { قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بالخُلَّةِ{[4408]} .
والطُّمأنينةُ : السكونُ ، وهي مصدرُ " اطمأنَّ " بوزن : اقْشَعَرَّ ، وهي على غير قياس المصادر ، إذ قياسُ " اطْمَأنَّ " أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان . واختلف في " اطْمَأَنَّ " هل هو مقلوبٌ ؛ أم لا ؟ فمذهب سيبويه{[4409]} رحمه الله أنه مقلوبٌ من " طَأْمَنَ " ، فالفاءُ طاءٌ ، والعينُ همزةٌ ، واللامُ ميمٌ ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه : افْلَعَلَّ بدليل قولهم : طامنتُه ، فتطامَنَ . ومذهبُ الجرمي : أنه غيرُ مقلوب ، وكأَنَّه يقول : إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء{[4410]} فإنه قال : والهَمزةُ في " لِيَطْمَئِنَّ " أصلٌ ، ووزنه يفعَلِلُّ ، ولذلك جاء { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } [ النساء :103 ] مثل : " اقْشَعْرَرْتُمْ " . انتهى . فوزنه على الأصل دونَ القلب ، هذا غيرُ بعيدٍ ؛ ألا ترى أَنَّهم في " جَبَذَ ، وجَذَبَ ، قالوا : ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال .
ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا .
ذكروا في سبب سؤال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وجوهاً :
أحدها : قال الحسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، وعطاءٌ ، وابن جريج : أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر ، قال ابن جريج{[4411]} : جيفة حمارٍ ، بساحل البحر وقال عطاءٌ : بحيرة طبريَّة ؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر ، وإذا جزر البحر ، جاءت السِّباعُ وأَكلت ، وإذا ذهب السباع ، جاءت الطيورُ ، فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع ، والطيور ، ودوابِّ البحر ؟ فقيل : أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟ قال : بلى ، ولكن المطلُوبُ من السؤال{[4412]} أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا .
الثاني : قال محمد بن إسحاق ، والقاضي{[4413]} إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في مناظرته مع النُّمروذ ، لما قال : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة :258 ] قال الملعون { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة :258 ] فأطلق محبوساً ، وقتل رجلاً ، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة ، وإنما الإِحياءُ ، أن [ الله ] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه . فقال له نمروذ : أَنتَ عانيته ؟ فلم يقدر أن يقول : نعم ، فقال له نمروذ : قُل لربّك حتَّى يحيي ، وإِلاَّ قتلتك ، فسأل اللهَ تعالى ذلك .
وقوله : " لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " يعني : بنجاتي من القتل ، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي ، وإذا قيل لي : أنت عانيته ؟ فأقول : نعم ، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها ، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة ، بل بسبب جهل [ المستمع ] .
الثالث : قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والسديُّ : إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً ، فاستعظم إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ذلك ، وقال : إِلهي ، ما علامةُ ذلك ؟ فقال تعالى : علامتُه : أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت ، فقال الله : أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ ؟ قال : بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك{[4414]} .
الرابع : أنه عليه السلام إِنَّما سأل ذلك لقومه ؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء : تارةً باطلةٌ وتارةً حقة ، كقولهم لموسى { اجْعَلْ لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف :138 ] فسأل إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ذلك . والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم .
الخامس : قال ابن الخطيب{[4415]} رحمه الله : إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه ، فكذلك الرسولُ ، عن وصول الملك إليه ، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك ؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ ، فلا يبعد أَن يقال : إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ، فقال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ .
[ قال ابن الخطيب{[4416]} : وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ ، والشُّبهاتُ ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه ، ومعنى " لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى ، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده ، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ، ففعلتُ ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً ؛ ليطمئن قلبي بإجابتك ، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة ؟ أَي : ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام ، لا نفس الإِحياء ]{[4417]} .
قال ابن الخطيب{[4418]} : وهاهنا سؤالٌ صعبٌ ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا .
فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه ، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم ، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه ، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم .
وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا : المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أمَّا إذا قلنا : المقصود شيءٌ آخر ، فالسؤال زائلٌ .
روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً ، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي{[4419]} " وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله . وقال : نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى " .
حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث : لم يشكَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى ، وإنَّما شكَّا أنه : هل يجيبهما إلى ما سألاه ؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ " اعترافٌ بالشكِّ على نفسه ، ولا على إبراهيم ، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول : إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله ، على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع ، وهضم النَّفس ، فكذلك قوله : " لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان ؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال .
وقيل : لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم : شكَّ إبراهيم ، ولم يشك نبيُّنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعاً منه ؛ وتقديماً لإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام .
[ قال القرطبيُّ{[4420]} : اختلف النَّاس في هذا السؤال : هل صدر من إبراهيم عليه الصلاة والسَّلام عن شكٍّ ، أم لا ؟ فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ ، وإنَّما طلب المعاينة ؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ؛ ولهذا قال عليه السلام : " لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ{[4421]} " رواه ابن عباس قال أبو عمر : لم يروه غيره ]{[4422]} .
قوله : " مِّنَ الطَّيْرِ " في متعلِّقه قولان :
أحدهما : أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديره : أربعةً كائنةً من الطير .
والثاني : أنه متعلقٌ بخذ ، أي : خذ من الطير .
و " الطير " اسم جمع ، كركبٍ وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائرٍ ، نحو : تاجر وتجر ، وهذا مذهب أبي الحسن{[4423]} . وقيل : بل هو مخفَّف من " طَيِّر " بتشديد [ الياء ] ، كقولهم : " هَيْن ومَيْت " في " هَيِّن ومَيِّت .
قال أبو البقاء{[4424]} رحمه الله : " هو في الأصل مصدر طارَ يطِير ، ثم سمِّي به هذا الجنسُ " . فتحصَّل فيه أربعة أقوال .
وجاء جرُّه ب " مِنْ " بعد العدد على أفصح الاستعمال ، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة ، ويجوز الإضافة كقوله تعالى : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل :48 ] ؛ وقال ذلك القائل : [ الوافر ]
ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ *** لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي{[4425]}
وزعم بعضهم : إن إضافته نادرةٌ ، لا يقاس عليها ، وبعضهم : أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة ، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر ، ويؤنَّث ؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده .
قوله : " فَصُرْهُنَّ " قرأ حمزة ، والكسائي{[4426]} : بكسر الصَّاد ، والباقون : بضمِّها ، وتخفيف الراء . واختلف في ذلك ، فقيل : القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ ، وذلك أنه يقال : صاره يصوره ويَصِيرُهُ ، بمعنى قطعه ، أو أماله ، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين ، والقراءتان تحتملهما معاً ، وهذا مذهب أبي عليّ .
وقال الفراء{[4427]} : " الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين ، وأمَّا الكسر : فمعناه القطع فقط " .
وقال غيره : " الكَسْرُ بمعنى القطع ، والضمُّ بمعنى الإمالة " . يقال رجل أصور ، أي : مائلُ العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا ، إذا قال به ، ومال إليه ، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ ، كأنه قيل أملهنَّ إليك ، وقطِّعهنَّ .
وقال ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد : صرهنَّ بالضم : بمعنى قطِّعهنَّ{[4428]} ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً ، إذا قطعه ، قال رؤبة يصف خصماً ألد : [ الرجز ]
صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا{[4429]} *** . . .
أي : قطعناهُ ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وقال عطاء{[4430]} : معناه اجمعهنَّ ، واضممهنَّ إليك ، يقال : صار يصور صوراً ، إذا اجتمع ، ومنه قيل لجماعة النَّحل : صورٌ .
فصل في لفظ " الصِّرِّ " في القرآن
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى القطع ؛ كهذه الآية ، أي : قطِّعهنَّ إليك صوراً .
الثاني : بمعنى الريح الباردة ، قال تعالى : { رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [ آل عمران :117 ] أي : بردٌ .
الثالث : يعني الإقامة على الشيء ؛ قال تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران :135 ] ، أي : لم يقيموا ، ومثله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } [ الواقعة :46 ] .
ونقل عن الفرَّاء أيضاً : أنه قال : " صَارَه " مقلوبٌ من قولهم : " صَرَاهُ عَنْ كَذَا " ، أي : قطعه عنه ، ويقال : صُرْتُ الشيء ، فانصار ، أي : انقطع ؛ قالت الخنساء : [ البسيط ]
فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ *** لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ{[4431]}
قال المبرد : وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر .
واختلف في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ ، أو معرَّبة ؟ فعن ابن عباس : أنها معرَّبة من النَّبطية ، وعن أبي الأسود ، أنَّها من السُّريانية ، والجمهور على أنها عربيةٌ ، لا معرَّبةٌ .
و " إِلَيْكَ " إن قلنا : إِنَّ " صُرْهُنَّ " بمعنى أملهنَّ : تعلَّق به ، وإن قلنا : إنه بمعنى : قطِّعهنَّ ، تعلَّق ب " خُذْ " .
ولمَّا فسَّر أبو البقاء{[4432]} " فَصُرْهُنَّ " بمعنى : أَمِلْهُنَّ " قدَّر محذوفاً بعده تقديره : فأملهنَّ إليك ، ثم قطِّعهنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن كما تقدم قدَّر محذوفاً يتعلَّق به " إِلَى " تقديره : قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك . ثم قال : " والأجودُ عندي أن يكون " إليك " حالاً من المفعول المضمر تقديره : فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك ، أو ممالةً ، أو نحو ذلك " .
وقرأ ابن عباس{[4433]} رضي الله عنه : " فَصُرْهُنَّ " بتشديد الراء ، مع ضم الصاد وكسرها ، مِنْ : صرَّه يَصُرّه ، إذا جمعه ؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل بكسر العين في المضارع قليلٌ .
ونقل أبو البقاء{[4434]} رحمه الله تعالى عمَّن شدَّد الراء : أنَّ منهم من يضمُّها ، ومنهم من يفتحها ، ومنهم من يكسرها ، مثل : " مُدَّهُنَّ " فالضمُّ على الإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين .
قال القرطبي{[4435]} : قرئ{[4436]} " صَرِّهِنَّ " بفتح الصاد ، وتشديد الراء مكسورة ؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة ؛ بمعنى فاحبسهنَّ ، من قولهم : " صرَّى يُصَرِّي " : إذا حبس ، ومنه الشاة المصرَّاة ، قال القرطبي : وهاهنا اعتراضٌ ذكره الماوردي ، وهو أن يقال : كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى عليه السلام في قوله : { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف :143 ] ؟
أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف .
الثاني : أن الأحوال تختلف ، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي وقتٍ آخر المنع ، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ .
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أمر الله تعالى إبراهيم بهذا ، قبل أن يولد ، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف{[4437]} .
قال مجاهدٌ ، وعطاءٌ ، وابن جريج{[4438]} : أخذ طاووساً ، وديكاً ، وحمامةً ، وغراباً{[4439]} . ونقل عن ابن عباس : ونسراً بدل الحمامة{[4440]} . وقال عطاء الخراساني : بطَّة خضراء ، وغراباً أسود ، وحمامةً بيضاء ، وديكاً أحمر{[4441]} " فَصُرْهُنَّ " أي : قطِّعهنَّ ، ومزقهن ، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم .
فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده
الأول : ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير ، ولم يأمره بأكثر ، ولا بأقل ؟ !
الثاني : ما الحكمة في كونها من الطير ، دون غيرها من الحيوان ؟ !
الثالث : هل كان من حيوان البحر ، ثم الوحش ، والطير وبهم الأنعام ؟
الرابع : هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة ، كالطير ، مخلوق من غالب عنصر الهواء ، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء ، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب ، وسراج البحر ، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ ، والسَّمندل{[4442]} الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار .
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها ؟
فالجواب{[4443]} : فائدته أن يتأمل فيها ، ويعرف أشكالها ، وهيئاتها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك ، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن ، وأنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام قطع أعضاءها ، ولحومها ، وريشها ، ودماءها ، وخلط بعضها ببعضٍ ؛ غير أبي مسلم ؛ فإنه أنكر ذلك ، وقال : إنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه .
والمراد ب " فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ " الإمالةُ والتمرين على الإجابة ، وتعلمها ، أي : فعوَّد الطير الأربعة ، بحيث تصير إذا دعوتها ، أجابتك . والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن .
أحدها : أنَّ المشهور في قوله : " فَصُرْهُنَّ " أي : أملهنَّ ، وأمَّا التقطيع والذبح ، فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل ، وهو لا يجوز .
وثانيها : لو كان المراد قطِّعهنَّ ، لم يقل إليك ؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ ، وتأخيرٌ ، تقديره : فخذ إليك أربعةً من الطير ، فصرهن ؟
قلنا : التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر .
وثالثها : أن الضمير في قوله : " ثُمَّ ادْعُهُنَّ " عائدٌ إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً ، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً في قوله : " يَأْتِينَكَ سَعْياً " عائد إليها ، لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض ، كان الضمير في " يَأْتِينَكَ " عائداً إلى أجزائها لا إليها .
الأول : أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور ، وقطَّعها أجزاءً ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع .
الثاني : أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم ؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير .
الثالث : أن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية ، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة .
الرابع : أنَّ قوله { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً .
قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة ، فيجب أن يكون المراد بالجزء ، هو الواحد من تلك الأربعة .
وأُجيب{[4444]} بأنَّ ما ذكرتم ، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر ، والتقدير : فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً .
قوله : " ثُمَّ اجْعَلْ " " جَعَلَ " يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وهو " جُزْءاً " ، فعلى هذا يتعلَّق " عَلَى كُلِّ " و " مِنْهُنَّ " ب " اجعل " ، وأن يكون بمعنى " صَيَّر " ، فيتعدَّى لاثنين ، فيكون " جُزءاً " الأول ، و " عَلَى كُلِّ " هو الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ .
و " منهنَّ " يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من " جُزْءاً " ، لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها ، نصب حالاً .
وأجاز أبو البقاء{[4445]} أن يكون مفعولاً ل " اجْعَلْ " يعني : إذا كانت " اجْعَلْ " بمعنى " صَيِّر " ، فيكون " جُزْءاً " مفعولاً أول ، و " منهنَّ " مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول ، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف . [ ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد ] قوله : " كُلِّ جَبَلٍ " تقديره : " عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك ، أو يليك " حتى يصحَّ المعنى .
وقرأ الجمهور : " جُزْءاً " بسكون الزاي والهمز ، وأبو بكر ضمَّ الزاي{[4446]} ، وأبو جعفر شدَّد الزاي ، من غير همزٍ ؛ ووجهها : أنَّه لمَّا حذف الهمزة ، وقف على الزاي ، ثم ضعَّفها ، كما قالوا : " هذا فَرَجّ " ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف . وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله : { هُزُواً } [ البقرة :67 ] . وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسر الجيم .
قال أبو البقاء{[4447]} : " وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها " . والجزء : القطعة من الشيء ، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع ، والتفرق ، ومنه : التجزئة والأجزاء .
فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية
ظاهر قوله : { عَلَى كُلِّ جَبَلٍ } جميع جبال الدنيا ، فذهب مجاهد ، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه .
وقال ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع : أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ .
وقيل : على حسب الجهات الأربع : أعني المشرق ، والمغرب ، والشمال ، والجنوب{[4448]} . وقال السديُّ ، وابن جريج : سبعةٌ من الجبال ؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر ، وكانت الجبال التي يشاهدها عليه الصَّلاة والسَّلام سبعةٌ{[4449]} .
قوله : " يَأْتِينَكَ " جواب الأمر ، فهو في محلِّ جزمٍ ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث .
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير ، أي : يَأتينك ساعياتٍ ، أو ذوات سعي .
والثاني : أن يكون حالاً من المخاطب ، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا ، فإنه روي عنه : " أن المعنى : يأتينك وأنت تسعى سعياً " فعلى هذا يكون " سعياً " منصوباً على المصدر ، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في " يَأْتِينَكَ " . قال شهاب الدين : والذي حمل الخليل رحمه الله على هذا التقدير ؛ أنه لا يقال عنده : " سَعَى الطائرُ " فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل عليه السلام لا من صفة الطيور .
الثالث : أن يكون " سَعْياً " منصوباً على نوع المصدر ؛ لأنه نوعٌ من الإتيان ، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ ، فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً .
وقال أبو البقاء{[4450]} : " ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً ؛ لأنَّ السعي ، والإتيان يتقاربان " ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله ، إلاَّ أنه تساهل في العبارة .
قيل : معنى " سَعْياً " عدواً ومشياً على أرجلهنَّ ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة .
وقيل : " طَيَراناً " . ولا يصحُّ ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه : بأن " السَّعْي " هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيراناً ، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة .
روي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام ذبحها ، ونتف ريشها ، وقطَّعها أجزاءً ، وخلط لحمها ، وريشها ، ودمها ، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع ، وأمسك رؤوسهن ، ثم دعاهنَّ فقال : تَعَالَيْن بإذن الله تعالى ، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته ، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى ، وإبراهيم عليه الصَّلاةُ والسَّلام ينظر ؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً : كلُّ جثَّةٍ إلى رأسها ، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته ، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله . { وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ } غالبٌ على جميع الممكنات " حَكِيمٌ " عالمٌ بعواقب الأمور ، وغاياتها .