اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث .

في العامل في " إذْ " ثلاثةُ أوجه :

أظهرها : أنه قال : " أَوَلَمْ تُؤْمِن " ، أي : قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك .

والثاني : أنه " أَلَمْ تَرَ " أي : ألم تر إذ قال إبراهيم .

والثالث : أنه مضمرٌ تقديره : واذكر قاله الزجاح ف " إِذْ " على هذين القولين مفعولٌ به ، لا ظرفٌ . و " ربِّ " منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذفَتْ ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِف حرفُ النداءِ .

وقوله : " أَرِنِي " تقدَّم ما فيه من القراءات ، والتوجيه في قوله : { وَأَرِنَا } [ البقرة :128 ] والرؤية هنا بصرية تتعدَّى لواحدٍ ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل ، أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأولُ ياءُ المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و " رأى " البصرية تُعَلَّق ، كما تعلق " نَظر " البصرية ، ومن كلامهم : " أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هاهنا " .

و " كَيْفَ " في محلِّ نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على التشبيه بالحال ، كما تقدَّم في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة :28 ] . والعاملُ فيها " تُحيي " وقدَّره مكي{[4404]} : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنًى ، لا إعرابٍ .

قال القرطبيُّ{[4405]} : الاستفهامُ بكيف ، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر الوجوه عند السائل ، والمسؤول ؛ نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا : ومتى قلت : كيف ثوبُكَ ؟ وكيف زيدٌ ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله ، وقد تكون " كَيْفَ " خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف ، نحو قولك : كيف شِئتَ فكُنْ ، ونحو قول البخاريّ : " كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي " ، و " كَيْفَ " في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء ، والإحياءُ متقرِّرٌ ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء ، يعلم أنها لا تصح ؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ ؛ مثاله أَنْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذِّب له : أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة ، ومعناها تسلِيمٌ جدلي ، كأنه يقول : افرِض أَنَّكَ ترفعه ، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام هذا الاشتراك المجازي ، خلص اللهُ له ذلك ، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة ، فقال له : " أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟ قال : بَلَى " فكمل الأَمر ، وتخلص من كُلِّ شكٍّ .

فإِن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً ، بل قال : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } [ البقرة :259 ] ، وهاهُنَا سمَّى إبراهيم ، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ ؟ !

فالجواب{[4406]} : قال ابن الخطيب رحمه الله : والسببُ فيه : أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ ، بل قال { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة :259 ] ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في نفسه ، وإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام حفظ الأَدب ، ورَاعاهُ ؛ فقال أَوَّلاً " رَبِّ " ثُمَّ دعا فقال : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في الطيور .

قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان :

أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي ، قَرَّره ؛ كقول القائل : [ الوافر ]

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا *** وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ{[4407]}

و{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شرحنا .

والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دخلت عليها ألفُ التقرير ، قال ابن عطية ؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانت كذلك ، استدعَتْ ناصباً ، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بُدَّ من تقديره ؛ والتقديرُ " أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ " ، فالهمزةُ في الحقيقة ، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ . وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهرُ الأَوَّلُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى .

وقوله : " بلى " جوابٌ للجملة المنفيَّة ، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا بالمعنى ، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة :6 ] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ .

قوله : " لِّيَطْمَئِنَّ " اللامُ لامُ كَيْ ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها ، بإضمار " أَنْ " ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد " لكنْ " تقديرُه : ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان ، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر ، قبل " لكنْ " ؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ ، والتقديرُ : بلى آمنْتُ ، وما سألتُ غير مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً .

قال السُّدِّيُّ ، وابن جبير : " أَوَلَمْ تُؤْمِن " بأَنَّكَ خليلي { قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بالخُلَّةِ{[4408]} .

والطُّمأنينةُ : السكونُ ، وهي مصدرُ " اطمأنَّ " بوزن : اقْشَعَرَّ ، وهي على غير قياس المصادر ، إذ قياسُ " اطْمَأنَّ " أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان . واختلف في " اطْمَأَنَّ " هل هو مقلوبٌ ؛ أم لا ؟ فمذهب سيبويه{[4409]} رحمه الله أنه مقلوبٌ من " طَأْمَنَ " ، فالفاءُ طاءٌ ، والعينُ همزةٌ ، واللامُ ميمٌ ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه : افْلَعَلَّ بدليل قولهم : طامنتُه ، فتطامَنَ . ومذهبُ الجرمي : أنه غيرُ مقلوب ، وكأَنَّه يقول : إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء{[4410]} فإنه قال : والهَمزةُ في " لِيَطْمَئِنَّ " أصلٌ ، ووزنه يفعَلِلُّ ، ولذلك جاء { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } [ النساء :103 ] مثل : " اقْشَعْرَرْتُمْ " . انتهى . فوزنه على الأصل دونَ القلب ، هذا غيرُ بعيدٍ ؛ ألا ترى أَنَّهم في " جَبَذَ ، وجَذَبَ ، قالوا : ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال .

ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا .

فصلٌ في الداعي على السؤال

ذكروا في سبب سؤال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وجوهاً :

أحدها : قال الحسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، وعطاءٌ ، وابن جريج : أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر ، قال ابن جريج{[4411]} : جيفة حمارٍ ، بساحل البحر وقال عطاءٌ : بحيرة طبريَّة ؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر ، وإذا جزر البحر ، جاءت السِّباعُ وأَكلت ، وإذا ذهب السباع ، جاءت الطيورُ ، فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع ، والطيور ، ودوابِّ البحر ؟ فقيل : أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟ قال : بلى ، ولكن المطلُوبُ من السؤال{[4412]} أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا .

الثاني : قال محمد بن إسحاق ، والقاضي{[4413]} إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في مناظرته مع النُّمروذ ، لما قال : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة :258 ] قال الملعون { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة :258 ] فأطلق محبوساً ، وقتل رجلاً ، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة ، وإنما الإِحياءُ ، أن [ الله ] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه . فقال له نمروذ : أَنتَ عانيته ؟ فلم يقدر أن يقول : نعم ، فقال له نمروذ : قُل لربّك حتَّى يحيي ، وإِلاَّ قتلتك ، فسأل اللهَ تعالى ذلك .

وقوله : " لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " يعني : بنجاتي من القتل ، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي ، وإذا قيل لي : أنت عانيته ؟ فأقول : نعم ، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها ، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة ، بل بسبب جهل [ المستمع ] .

الثالث : قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والسديُّ : إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً ، فاستعظم إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ذلك ، وقال : إِلهي ، ما علامةُ ذلك ؟ فقال تعالى : علامتُه : أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت ، فقال الله : أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ ؟ قال : بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك{[4414]} .

الرابع : أنه عليه السلام إِنَّما سأل ذلك لقومه ؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء : تارةً باطلةٌ وتارةً حقة ، كقولهم لموسى { اجْعَلْ لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف :138 ] فسأل إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ذلك . والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم .

الخامس : قال ابن الخطيب{[4415]} رحمه الله : إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه ، فكذلك الرسولُ ، عن وصول الملك إليه ، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك ؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ ، فلا يبعد أَن يقال : إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ، فقال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ .

[ قال ابن الخطيب{[4416]} : وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ ، والشُّبهاتُ ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه ، ومعنى " لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى ، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده ، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ، ففعلتُ ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً ؛ ليطمئن قلبي بإجابتك ، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة ؟ أَي : ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام ، لا نفس الإِحياء ]{[4417]} .

قال ابن الخطيب{[4418]} : وهاهنا سؤالٌ صعبٌ ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا .

فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه ، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم ، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه ، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم .

وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا : المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أمَّا إذا قلنا : المقصود شيءٌ آخر ، فالسؤال زائلٌ .

روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً ، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي{[4419]} " وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله . وقال : نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى " .

حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث : لم يشكَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى ، وإنَّما شكَّا أنه : هل يجيبهما إلى ما سألاه ؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ " اعترافٌ بالشكِّ على نفسه ، ولا على إبراهيم ، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول : إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله ، على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع ، وهضم النَّفس ، فكذلك قوله : " لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان ؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال .

وقيل : لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم : شكَّ إبراهيم ، ولم يشك نبيُّنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعاً منه ؛ وتقديماً لإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام .

[ قال القرطبيُّ{[4420]} : اختلف النَّاس في هذا السؤال : هل صدر من إبراهيم عليه الصلاة والسَّلام عن شكٍّ ، أم لا ؟ فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ ، وإنَّما طلب المعاينة ؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ؛ ولهذا قال عليه السلام : " لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ{[4421]} " رواه ابن عباس قال أبو عمر : لم يروه غيره ]{[4422]} .

قوله : " مِّنَ الطَّيْرِ " في متعلِّقه قولان :

أحدهما : أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديره : أربعةً كائنةً من الطير .

والثاني : أنه متعلقٌ بخذ ، أي : خذ من الطير .

و " الطير " اسم جمع ، كركبٍ وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائرٍ ، نحو : تاجر وتجر ، وهذا مذهب أبي الحسن{[4423]} . وقيل : بل هو مخفَّف من " طَيِّر " بتشديد [ الياء ] ، كقولهم : " هَيْن ومَيْت " في " هَيِّن ومَيِّت .

قال أبو البقاء{[4424]} رحمه الله : " هو في الأصل مصدر طارَ يطِير ، ثم سمِّي به هذا الجنسُ " . فتحصَّل فيه أربعة أقوال .

وجاء جرُّه ب " مِنْ " بعد العدد على أفصح الاستعمال ، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة ، ويجوز الإضافة كقوله تعالى : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل :48 ] ؛ وقال ذلك القائل : [ الوافر ]

ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ *** لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي{[4425]}

وزعم بعضهم : إن إضافته نادرةٌ ، لا يقاس عليها ، وبعضهم : أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة ، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر ، ويؤنَّث ؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده .

قوله : " فَصُرْهُنَّ " قرأ حمزة ، والكسائي{[4426]} : بكسر الصَّاد ، والباقون : بضمِّها ، وتخفيف الراء . واختلف في ذلك ، فقيل : القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ ، وذلك أنه يقال : صاره يصوره ويَصِيرُهُ ، بمعنى قطعه ، أو أماله ، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين ، والقراءتان تحتملهما معاً ، وهذا مذهب أبي عليّ .

وقال الفراء{[4427]} : " الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين ، وأمَّا الكسر : فمعناه القطع فقط " .

وقال غيره : " الكَسْرُ بمعنى القطع ، والضمُّ بمعنى الإمالة " . يقال رجل أصور ، أي : مائلُ العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا ، إذا قال به ، ومال إليه ، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ ، كأنه قيل أملهنَّ إليك ، وقطِّعهنَّ .

وقال ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد : صرهنَّ بالضم : بمعنى قطِّعهنَّ{[4428]} ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً ، إذا قطعه ، قال رؤبة يصف خصماً ألد : [ الرجز ]

صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا{[4429]} *** . . .

أي : قطعناهُ ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وقال عطاء{[4430]} : معناه اجمعهنَّ ، واضممهنَّ إليك ، يقال : صار يصور صوراً ، إذا اجتمع ، ومنه قيل لجماعة النَّحل : صورٌ .

فصل في لفظ " الصِّرِّ " في القرآن

قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :

الأول : بمعنى القطع ؛ كهذه الآية ، أي : قطِّعهنَّ إليك صوراً .

الثاني : بمعنى الريح الباردة ، قال تعالى : { رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [ آل عمران :117 ] أي : بردٌ .

الثالث : يعني الإقامة على الشيء ؛ قال تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران :135 ] ، أي : لم يقيموا ، ومثله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } [ الواقعة :46 ] .

ونقل عن الفرَّاء أيضاً : أنه قال : " صَارَه " مقلوبٌ من قولهم : " صَرَاهُ عَنْ كَذَا " ، أي : قطعه عنه ، ويقال : صُرْتُ الشيء ، فانصار ، أي : انقطع ؛ قالت الخنساء : [ البسيط ]

فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ *** لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ{[4431]}

أي : تنقطع .

قال المبرد : وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر .

واختلف في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ ، أو معرَّبة ؟ فعن ابن عباس : أنها معرَّبة من النَّبطية ، وعن أبي الأسود ، أنَّها من السُّريانية ، والجمهور على أنها عربيةٌ ، لا معرَّبةٌ .

و " إِلَيْكَ " إن قلنا : إِنَّ " صُرْهُنَّ " بمعنى أملهنَّ : تعلَّق به ، وإن قلنا : إنه بمعنى : قطِّعهنَّ ، تعلَّق ب " خُذْ " .

ولمَّا فسَّر أبو البقاء{[4432]} " فَصُرْهُنَّ " بمعنى : أَمِلْهُنَّ " قدَّر محذوفاً بعده تقديره : فأملهنَّ إليك ، ثم قطِّعهنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن كما تقدم قدَّر محذوفاً يتعلَّق به " إِلَى " تقديره : قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك . ثم قال : " والأجودُ عندي أن يكون " إليك " حالاً من المفعول المضمر تقديره : فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك ، أو ممالةً ، أو نحو ذلك " .

وقرأ ابن عباس{[4433]} رضي الله عنه : " فَصُرْهُنَّ " بتشديد الراء ، مع ضم الصاد وكسرها ، مِنْ : صرَّه يَصُرّه ، إذا جمعه ؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل بكسر العين في المضارع قليلٌ .

ونقل أبو البقاء{[4434]} رحمه الله تعالى عمَّن شدَّد الراء : أنَّ منهم من يضمُّها ، ومنهم من يفتحها ، ومنهم من يكسرها ، مثل : " مُدَّهُنَّ " فالضمُّ على الإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين .

قال القرطبي{[4435]} : قرئ{[4436]} " صَرِّهِنَّ " بفتح الصاد ، وتشديد الراء مكسورة ؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة ؛ بمعنى فاحبسهنَّ ، من قولهم : " صرَّى يُصَرِّي " : إذا حبس ، ومنه الشاة المصرَّاة ، قال القرطبي : وهاهنا اعتراضٌ ذكره الماوردي ، وهو أن يقال : كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى عليه السلام في قوله : { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف :143 ] ؟

فعنه جوابان :

أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف .

الثاني : أن الأحوال تختلف ، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي وقتٍ آخر المنع ، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ .

قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أمر الله تعالى إبراهيم بهذا ، قبل أن يولد ، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف{[4437]} .

فصل في الطير المأخوذة

قال مجاهدٌ ، وعطاءٌ ، وابن جريج{[4438]} : أخذ طاووساً ، وديكاً ، وحمامةً ، وغراباً{[4439]} . ونقل عن ابن عباس : ونسراً بدل الحمامة{[4440]} . وقال عطاء الخراساني : بطَّة خضراء ، وغراباً أسود ، وحمامةً بيضاء ، وديكاً أحمر{[4441]} " فَصُرْهُنَّ " أي : قطِّعهنَّ ، ومزقهن ، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم .

فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده

وهاهنا سؤالات :

الأول : ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير ، ولم يأمره بأكثر ، ولا بأقل ؟ !

الثاني : ما الحكمة في كونها من الطير ، دون غيرها من الحيوان ؟ !

الثالث : هل كان من حيوان البحر ، ثم الوحش ، والطير وبهم الأنعام ؟

الرابع : هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة ، كالطير ، مخلوق من غالب عنصر الهواء ، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء ، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب ، وسراج البحر ، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ ، والسَّمندل{[4442]} الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار .

فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها ؟

فالجواب{[4443]} : فائدته أن يتأمل فيها ، ويعرف أشكالها ، وهيئاتها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك ، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن ، وأنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام قطع أعضاءها ، ولحومها ، وريشها ، ودماءها ، وخلط بعضها ببعضٍ ؛ غير أبي مسلم ؛ فإنه أنكر ذلك ، وقال : إنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه .

والمراد ب " فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ " الإمالةُ والتمرين على الإجابة ، وتعلمها ، أي : فعوَّد الطير الأربعة ، بحيث تصير إذا دعوتها ، أجابتك . والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن .

واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :

أحدها : أنَّ المشهور في قوله : " فَصُرْهُنَّ " أي : أملهنَّ ، وأمَّا التقطيع والذبح ، فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل ، وهو لا يجوز .

وثانيها : لو كان المراد قطِّعهنَّ ، لم يقل إليك ؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ ، وتأخيرٌ ، تقديره : فخذ إليك أربعةً من الطير ، فصرهن ؟

قلنا : التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر .

وثالثها : أن الضمير في قوله : " ثُمَّ ادْعُهُنَّ " عائدٌ إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً ، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً في قوله : " يَأْتِينَكَ سَعْياً " عائد إليها ، لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض ، كان الضمير في " يَأْتِينَكَ " عائداً إلى أجزائها لا إليها .

واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ :

الأول : أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور ، وقطَّعها أجزاءً ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع .

الثاني : أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم ؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير .

الثالث : أن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية ، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة .

الرابع : أنَّ قوله { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً .

قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة ، فيجب أن يكون المراد بالجزء ، هو الواحد من تلك الأربعة .

وأُجيب{[4444]} بأنَّ ما ذكرتم ، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر ، والتقدير : فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً .

قوله : " ثُمَّ اجْعَلْ " " جَعَلَ " يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وهو " جُزْءاً " ، فعلى هذا يتعلَّق " عَلَى كُلِّ " و " مِنْهُنَّ " ب " اجعل " ، وأن يكون بمعنى " صَيَّر " ، فيتعدَّى لاثنين ، فيكون " جُزءاً " الأول ، و " عَلَى كُلِّ " هو الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ .

و " منهنَّ " يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من " جُزْءاً " ، لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها ، نصب حالاً .

وأجاز أبو البقاء{[4445]} أن يكون مفعولاً ل " اجْعَلْ " يعني : إذا كانت " اجْعَلْ " بمعنى " صَيِّر " ، فيكون " جُزْءاً " مفعولاً أول ، و " منهنَّ " مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول ، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف . [ ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد ] قوله : " كُلِّ جَبَلٍ " تقديره : " عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك ، أو يليك " حتى يصحَّ المعنى .

وقرأ الجمهور : " جُزْءاً " بسكون الزاي والهمز ، وأبو بكر ضمَّ الزاي{[4446]} ، وأبو جعفر شدَّد الزاي ، من غير همزٍ ؛ ووجهها : أنَّه لمَّا حذف الهمزة ، وقف على الزاي ، ثم ضعَّفها ، كما قالوا : " هذا فَرَجّ " ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف . وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله : { هُزُواً } [ البقرة :67 ] . وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسر الجيم .

قال أبو البقاء{[4447]} : " وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها " . والجزء : القطعة من الشيء ، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع ، والتفرق ، ومنه : التجزئة والأجزاء .

فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية

ظاهر قوله : { عَلَى كُلِّ جَبَلٍ } جميع جبال الدنيا ، فذهب مجاهد ، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه .

وقال ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع : أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ .

وقيل : على حسب الجهات الأربع : أعني المشرق ، والمغرب ، والشمال ، والجنوب{[4448]} . وقال السديُّ ، وابن جريج : سبعةٌ من الجبال ؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر ، وكانت الجبال التي يشاهدها عليه الصَّلاة والسَّلام سبعةٌ{[4449]} .

قوله : " يَأْتِينَكَ " جواب الأمر ، فهو في محلِّ جزمٍ ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث .

قوله : " سَعْياً " فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير ، أي : يَأتينك ساعياتٍ ، أو ذوات سعي .

والثاني : أن يكون حالاً من المخاطب ، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا ، فإنه روي عنه : " أن المعنى : يأتينك وأنت تسعى سعياً " فعلى هذا يكون " سعياً " منصوباً على المصدر ، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في " يَأْتِينَكَ " . قال شهاب الدين : والذي حمل الخليل رحمه الله على هذا التقدير ؛ أنه لا يقال عنده : " سَعَى الطائرُ " فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل عليه السلام لا من صفة الطيور .

الثالث : أن يكون " سَعْياً " منصوباً على نوع المصدر ؛ لأنه نوعٌ من الإتيان ، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ ، فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً .

وقال أبو البقاء{[4450]} : " ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً ؛ لأنَّ السعي ، والإتيان يتقاربان " ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله ، إلاَّ أنه تساهل في العبارة .

فصل في معنى " سَعْياً "

قيل : معنى " سَعْياً " عدواً ومشياً على أرجلهنَّ ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة .

وقيل : " طَيَراناً " . ولا يصحُّ ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه : بأن " السَّعْي " هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيراناً ، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة .

روي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام ذبحها ، ونتف ريشها ، وقطَّعها أجزاءً ، وخلط لحمها ، وريشها ، ودمها ، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع ، وأمسك رؤوسهن ، ثم دعاهنَّ فقال : تَعَالَيْن بإذن الله تعالى ، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته ، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى ، وإبراهيم عليه الصَّلاةُ والسَّلام ينظر ؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً : كلُّ جثَّةٍ إلى رأسها ، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته ، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله . { وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ } غالبٌ على جميع الممكنات " حَكِيمٌ " عالمٌ بعواقب الأمور ، وغاياتها .


[4404]:- ينظر: المشكل 1/109.
[4405]:- ينظر: القرطبي 3/194.
[4406]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/33.
[4407]:- تقدم برقم (357).
[4408]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/489).
[4409]:- ينظر: الكاتب لسيبويه 2/380.
[4410]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/103.
[4411]:- ينظر: تفسير البغوي 1/247.
[4412]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/486-487).
[4413]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/34.
[4414]:- تقدم.
[4415]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/34.
[4416]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/34-35.
[4417]:- سقط في ب.
[4418]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/35-36.
[4419]:- أخرجه البخاري (4/290) كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل ونبئهم رقم (3372)، (6/67) كتاب التفسير باب سورة البقرة رقم (4537) ومسلم رقم (133، 1839) وابن ماجه (4026) وأحمد (2/326) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/134) والبغوي في "شرح السنة" (1/114).
[4420]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/193.
[4421]:- أخرجه أحمد (1/215،271) والحاكم (2/321) وابن حبان (2087) والبزار (1/111) رقم (200) من حديث ابن عباس وصححه الحاكم وابن حبان. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/156) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح وصححه ابن حبان.
[4422]:- سقط في ب.
[4423]:- ينظر: معاني القرآن 504.
[4424]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/102.
[4425]:- البيت للحطيئة ينظر ديوانه ص 270، والأغاني 2/144، والإنصاف 2/771، وخزانة الأدب 7/367، 368، 369، 394، والخصائص 2/412، والكتاب 3/565، ولسان العرب (ذود)، (نفس)، ولأعرابي أو للحطيئة أو لغيره في الدر 4/40، ولأعرابي من أهل البادية في المقاصد النحوية 4/485، وأوضح المسالك 4/246، والدرر 6/195، وشرح الأشموني 2/620، وشرح التصريح 2/270، ومجالس ثعلب 1/304، وهمع الهوامع 1/253، 2/170.
[4426]:- انظر: إعراب القراءات 1/97، وحجة القراءات 145، وشرح الطيبة 4/120، والعنوان 75، وشرح شعلة 296، والحجة 2/389.
[4427]:- ينظر: معاني القرآن للفراء 1/174.
[4428]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/502) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/593) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان".
[4429]:- ونسب إلى العجاج: صرنا به الحكم وأعيا الحكما. ينظر اللسان (صور).
[4430]:- ينظر: تفسير البغوي 1/248.
[4431]:- ينظر: الأضداد (37)، البحر 2/310، الدر المصون 1/632.
[4432]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/111.
[4433]:- انظر: الوجيز 1/354- بدون نسبة- والبحر المحيط 2/311، والدر المصون 1/632.
[4434]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/111.
[4435]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/196.
[4436]:- انظر: المصدر السابق.
[4437]:- ذكره القرطبي في "تفسيره" (3/196).
[4438]:- ينظر: تفسير البغوي 1/248.
[4439]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/495) عن مجاهد وابن جريج وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/593) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4440]:- أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (1/593).
[4441]:- ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (2/310)، قال ابن كثير في تفسيره (1/315): اختلف المفسرون في هذه الأربعة وإن كان لا طائل تحت تعيينها إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن.
[4442]:- السمندل: بفتح السين والميم وبعد النون الساكنة دال مهملة ولام في آخره، وسماه الجوهري: السندل بغير ميم، وابن خلكان: السمند بغير لام، وهو طائر يأكل البيش؛ وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو أخضر بتلك البلاد، فإذا يبس كان قوتا لهم ولم يضرهم، فإذا بعد عن الصين ولو مائة ذراع وأكله آكل-مات من ساعته، ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار، ومكثه فيها وإذا اتسخ جلده، لا يغسل إلا بالنار، وكثيرا ما يوجد بالهند، وهي دابة دون الثعلب، خلنجية اللون، حمراء العين، ذات ذنب طويل، ينسج من وبرها مناديل، إذا اتسخت، ألقيت في النار، فتنصلح، ولا تحترق، وزعم آخرون أن السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ في النار، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار، ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام، فإذا اتسخ بعضها طرح في النار، فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل. قال ابن خلكان: ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة في طوله وعرضه، فجعلوها في النار فما عملت فيه شيئا، فغمسوا أحد جوانبها في الزيت ثم تركوه على قتيلة السراج، فأشعل وبقي زمانا طويلا مشتعلا، ثم أطفؤوه؛ فإذا هو على حاله ما تغير منه شيء. ينظر: حياة الحيوان 2/40.
[4443]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/37.
[4444]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/38.
[4445]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/111.
[4446]:- انظر: المحرر الوجيز 1/355، والبحر المحيط 2/331، والدر المصون1/132، وإتحاف 1/451، وحجة القراءات 145.
[4447]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/111.
[4448]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/505-506) عن ابن عباس وقتادة والحسن والربيع.
[4449]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/508) عن السدي.
[4450]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/111.