الطمأنينة : مصدر اطمأنَّ على غير القياس ، والقياس الاطمئنان ، وهو : السكون ، وطامنته أسكنته ، وطامنته فتطامن : خفضته فانخفض ، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما قدّمت فيه الميم على الهمزة ، فهو من باب المقلوب ، ومذهب الجرمي : أن الأصل في اطمأن كاطأمن ، وليس من المقلوب ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف .
الطير : اسم جمع : كركْب وسفْر ، وليس بجمع خلافاً لأبي الحسن .
وانصار : انقطع ، وصرته أصوره : أملته ، ويقال أيضاً في القطع والإمالة : صاره يصيره ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : الضم في الصاد يحتمل الإمالة والتقطيع ، والكسر فيها لا يحتمل إلاَّ القطع ، وقال أيضاً : صاره مقلوب صراه عن كذا ، أي : قطعه ، وقال غيره : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة .
الجبل : معروف ويجمع في القلة على : أجبال وأجبل ، وفي الكثرة على : جبال .
الجزء : من الشيء ، القطعة منه وجزَّأ الشيء جعله قطعاً .
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } مناسبة هذه الآية لما قبلها في غاية الظهور ، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى ، في قول إبراهيم لنمروذ { ربي الذي يحيي ويميت } لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه وفي حماره ، وإبراهيم أراه ذلك في غيره ، وقدّمت آية المار على آية إبراهيم ، وإن كان إبراهيم مقدّماً في الزمان على المار ، لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت ، وإن كان تعجب اعتبارٍ فأشبه الإنكار ، وإن لم يكن إنكاراً فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم ، وأما إن كان المار كافراً فظهرت المناسبة أقوى ظهور .
وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء ، ليشاهد عياناً ما كان يعلمه بالقلب ، وأخبر به نمروذ .
والعامل في : إذ ، على ما قالوا محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ، وقيل : العامل مذكور وهو : ألم تر ، المعنى : ألم تر إذ قال ، وهو مفعول : بتر .
والذي يظهر أن العامل في : إذ ، قوله { قال أو لم تؤمن } كما قررنا ذلك في قوله { وإذ قال ربك للملائكة } وفي افتتاح السؤال بقوله : رب ، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ { ربي الذي يحيي ويميت } لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدّلالة عليه .
و : أرني ، سؤال رغبة ، وهو معمول : لقال ، والرؤية هنا بصرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدّت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية .
فقول { كيف تحيي الموتى } في موضع نصب ، وتعلق العرب رأى البصرية من كلامهم ، أما ترى ، أيّ برق هاهنا .
وعلم أن الأنبياء ، عليهم السلام ، معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحاً ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ، لأن ذلك سؤال أن يريه عياناً كيفية إحياء الموتى ، لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ، واستدل به على نمروذ في قوله { ربي الذي يحيي ويميت } طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبدّدة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى .
والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء ، وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده .
وأما ما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني : أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب ، فتأويل ليس بشيء قالوا في سبب سؤاله أقوال أحدهما : أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، قاله ابن زيد .
أو : الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ : { أنا أحيي وأميت } قاله ابن إسحاق ، أو : التجربة للخلة من الله إذ بشر بها ، لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره ، قاله ابن جبير .
{ قال أو لم تؤمن } الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والهمزة للتقرير ، كقوله .
وقوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } المعنى : أنتم خير ، وقد شرحنا لك صدرك ، وكذلك هذا معناه : قد آمنت بالإحياء .
إيماناً مطلقاً دخل فيه فعل إحياء الموتى ، والواو : واو حال ، دخلت عليها ألف التقرير .
وكون الواو هنا للحال غير واضح ، لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب ، وإذ ذاك لا بد لها من عامل ، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية ، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال ، ويصير التقدير : أسألت ولم تؤمن ؟ أي : أسألت في هذه الحال ؟ .
والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية ، وأن : الواو ، للعطف ، كما قال : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً } ونحوه .
واعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت .
وقد تقدّم لنا الكلام في هذا ، ولذلك كان الجواب : ببلى ، في قوله { قال : بلى } وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت ، وإن كان بصورة النفي ، تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض ، فتجيبه على صورة النفي ، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات ، وهذا مما قررناه ، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى ، ولذلك علة ذكرت في علم النحو ، وعلى ما قاله ابن عطية من أن : الواو ، للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله : بلى ، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه ، فالجواب إنما يكون في التصديق : بنعم ، وفي غير التصديق : بلا ، أما أن يجاب : ببلى ، فلا يجوز ، وهذا على ما تقرر في علم النحو .
{ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي } .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : أو لم تؤمن ، وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ؟ .
قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين ، و : بلى ، إيجاب لما بعد النفي ، معناه : بلى آمنت ، ولكن ليطمئن قلبي ، ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامّة علم الضرورة علم الاستدال .
وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك ، بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك .
وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال ، بل منه ما يجوز معه التشكيك .
أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك ، كعلمنا بحدوث العالم ، وبوحدانية الموجد ، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك .
وقال ابن عطية : ليطمئن ، معناه : ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد ، والفكر في صورة الإحياء غير محظور ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، إذ حركه إلى ذلك ، أما أمر الدابة المأكولة ، وأما قول النمروذ { أنا أحيي وأميت } .
واللام في قوله : ليطمئن ، متعلقة بمحذوف بعد لكن ، التقدير : ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي ، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل لكن حتى يصح الاستدراك ، التقدير : قال : بلى أي آمنت ، وما سألت عن غير إيمان ، ولكن سألت ليطمئن قلبي .
وروي عن : ابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة : ليزداد يقيناً ، وعن بعضهم : لأزداد إيماناً مع إيماني .
قال ابن عطية : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلاَّ السكون عن الفكر ، وإلاَّ فاليقين لا يتبعض انتهى .
وقال النصراباذي : حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره ، فكأنه قوّله الشوق : أرني ، كما قال موسى عليه السلام ، ثم تعلل برؤية الصنع له تأدباً .
وحكى القشيري أنه قيل : استجلب خطاباً بهذه المقالة ، حتى قال له الحق : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى آمنت ، ولكن اشتقت إلى قولك : أو لم تؤمن ؟ فإني بقولك : أو لم تؤمن ؟ يطمئن قلبي والمحب أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه .
{ قال : فخذ أربعة من الطير } لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى أجابه تعالى لذلك ، وعلمه كيف يصنع أولاً ، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير ، فيحتمل أن يكون المأمور به معيناً ، وما ذكر تعيينه ، ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة ، أي أربعة كانت من غير تعيين ، إذ لا كبير علم في ذكر التعيين .
وقد اختلفوا فيما أخذ ، فقال ابن عباس : أخذ طاووساً ونسراً وديكاً وغراباً .
وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جريج ، وابن زيد : كذلك ، إلاَّ أنهم جعلوا حمامة بدل النسر .
وقال ابن عباس أيضاً ، فيما روى عبد الرحمن بن هبيرة عنه : أخذ حمامة وكركياً وديكاً وطاووساً .
وقال في رواية الضحاك : أخذ طاووساً وديكاً ودجاجة سندية وأوزة .
وقال في رواية أخرى عن الضحاك : أنه مكان الدجاجة السندية : الرأل ، وهو فرخ النعام .
وقال مجاهد فيما روى ليث : ديك وحمامة وبطة وطاووس .
وقال : ديك وحمامة وبطة وغراب .
وزاد عطاء الخراساني وصفاً في هذه الأربعة فقال : ديك أحمر ، وحمامة بيضاء ، وبطة خضراء ، وغراب أسود .
وقال أبو عبد الله : طاووس وحمامة وديك وهدهد ، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وكان لفظ الموتى جمعاً ، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع ، لا أن يأخذ واحداً .
قيل : وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات ، وكانت من الطير ، قيل لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع ، والخليل عليه السلام كانت همته العلوّ والوصول إلى الملكوت ، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته ، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل : خص الطاووس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع ، والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل ، والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح ، والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب .
وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا .
ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك ؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك .
وأمره بالأخذ للطيور وهو : إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء ، لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية ، وحاسة اللمس .
والطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكراً لقوله تعالى { وخذ أربعة من الطير } وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل : بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : { تسعة رهط } ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث ، وكلا القولين غير صواب .
{ فصرهنّ إليك } أي قطعهنّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن إسحاق .
وقال أبو الأسود : هي بالسريانية ، وقال أبو عبيدة : قطعهنّ .
وقال قتادة : فصلهنّ ، وعنه : مزقهنّ وفرقهنّ .
وقال عطاء بن أبي رباح : اضممهنّ إليك .
وقال ابن عباس أيضاً ، أوثقهنّ .
وقال الضحاك : شققهنّ ، بالنبطية .
وإذا كان : فصرهنّ ، بمعنى الإمالة فتتعلق إليك به ، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بخذ .
وقرأ حمزة ، ويزيد ، وخلف ، ورويس ، بكسر الصاد ، وباقي السبعة بالضم .
وهما لغتان ، كما تقدّم : صار يصور ويصير ، بمعنى أمال .
وقرأ ابن عباس وقوم : فصرهنّ ، بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صرّه يصرّه ويصرّه ، إذا جمعه ، نحو : ضره يضره ويضره ، وكونه مضاعفاً متعدياً جاء على يفعل بكسر العين قليل ، وعنه : فصرهنّ ، بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية ، ورويت هذه القراءة عن عكرمة .
وعنه أيضاً : فصرهنّ إليك ، بضم الصاد وتشديد الراء .
وإذا تؤول : فصرهنّ ، بمعنى القطع فلا حذف ، أو بمعنى : الإمالة فالحذف ، وتقديره : وقطعهنّ واجعلهنّ أجزاءً ، وعلى تفسير : فصرهنّ بمعنى أملهنّ وضمهنّ إلى نفسك ، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلالها لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك .
{ ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزأ } العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي : يليك ، أو : بحضرتك ، دون مراعاة عدد .
وروي عن ابن عباس أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا ، وهو بعيد .
وخصصت الجبال بعدد الأجزاء ، فقيل : أربعة ، قاله قتادة ، والربيع ، وقيل : سبعة ، قاله السدي ، وابن جريج ، قيل : عشرة ، قاله أبو عبد الله الوزير المغربي ، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله : إنه العشر ، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة .
والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور .
وقرأ الجمهور جزءاً باسكان الزاي وبالهمز ، وضم أبو بكر : الزاي ، وقرأ أبو جعفر ، جزّاً ، بحذف الهمزة وتشديد الزاي ، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي ، كما يفعل في الوقف ، كقولك : هذا فرج .
و : اجعل ، هنا يحتمل أن تكون بمعنى : ألق ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق على كل جبل .
باجعل ، ويحتمل أن يكون بمعنى : صير ، فيتعدى إلى اثنين ، ويكون الثاني على كل جبل ، فيتعلق بمحذوف .
{ ثم ادعهنّ يأتينك سعياً } أمره بدعائهنّ وهنّ أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتيانهنّ إليه ، والسعي هو : الإسراع في الشيء .
وقال الخليل : لا يقال سعى الطائر ، يعنى على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهنّ فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهنّ مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ اتيانهنّ إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهنّ من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهنّ يأتين على خلاف عادتهنّ من الطيران ، فكان كذلك .
وجعل سيرهنّ إليه سعياً ، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ، لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته .
وانتصاب : سعياً ، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعياً .
فعلى هذا يكون مصدراً لفعل محذوف ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهنّ ، أي يكون منهنّ إتيان إليك ، ومنك سعي إليهنّ ، فتلتقي بهنّ .
والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب : سعياً ، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان .
وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه الطيور وذكاها وقطعها قطعاً صغاراً ، وجمع ذلك مع الدم والريش ، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ثم قال : تعالين باذن الله فتطايرت تلك الأجزاء وصار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولاً ، وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعياً حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله .
وزاد النحاس : أن ابراهيم : كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه .
وقال أبو عبد الله : ذبحهن ونحز أجزاءهنّ في المنحاز ، يعني الهاون لأرؤسهن ، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثم دعاهنّ فأتين سعياً يتطاير اللحم إلى اللحم ، والريش إلى الريش ، والجلد إلى الجلد ، بقدرة الله تعالى .
وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها ، وأنكر ذلك أبو مسلم ، وقال : لما طلب إبراهيم احياء الميت من الله ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه ، والمراد : بصرهنّ إليك : أملهنّ ، ومر بهنّ على الإجابة بحيث يصرن إذا دعوتهّن أجبنك ، فإذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهنّ واحداً منها حال حياته ، ثم ادعهنّ يأتينك سعياً .
والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر القول بالتقطيع ، قال : لأن المشهور في اللغة في : فصرهنّ ، أملهنّ ، وأما التقطيع والذبح ، فليس في اللفظ ما يدل عليه ، وبأنه لو كان المعنى : قطعهنّ ، لم يقل : إليك ، وتعليقه : بخذ ، خلاف الظاهر ، وبأن الضمير في : ثم ادعهنّ ، وفي يأتينك عائد اليها لا إلى الأجزاء وعوده على الاجزاء المتفرقة خلاف الظاهر ، ولا دليل فيما ذكر ، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع ، وبأن ما ذكره غير مختص بابراهيم ، فلا مزية له .
وبأنه سأله أن يريه كيف يحيي الموتى ، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم .
واحتج للقول الأول باجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك .
والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر : ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزأ ، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأً جزأً ، لأن الواحد منها سمي جزءاً ، وجعل كل واحد على جبل .
{ واعلم أن الله عزيز حكيم } عزيز لا يمتنع عليه ما يريد ، حكيم فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ، لأن الغلبة تكون عن العزة .
وقيل : عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفاة .