البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

الطمأنينة : مصدر اطمأنَّ على غير القياس ، والقياس الاطمئنان ، وهو : السكون ، وطامنته أسكنته ، وطامنته فتطامن : خفضته فانخفض ، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما قدّمت فيه الميم على الهمزة ، فهو من باب المقلوب ، ومذهب الجرمي : أن الأصل في اطمأن كاطأمن ، وليس من المقلوب ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف .

الطير : اسم جمع : كركْب وسفْر ، وليس بجمع خلافاً لأبي الحسن .

صار : يصور قطع .

وانصار : انقطع ، وصرته أصوره : أملته ، ويقال أيضاً في القطع والإمالة : صاره يصيره ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : الضم في الصاد يحتمل الإمالة والتقطيع ، والكسر فيها لا يحتمل إلاَّ القطع ، وقال أيضاً : صاره مقلوب صراه عن كذا ، أي : قطعه ، وقال غيره : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة .

الجبل : معروف ويجمع في القلة على : أجبال وأجبل ، وفي الكثرة على : جبال .

الجزء : من الشيء ، القطعة منه وجزَّأ الشيء جعله قطعاً .

{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } مناسبة هذه الآية لما قبلها في غاية الظهور ، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى ، في قول إبراهيم لنمروذ { ربي الذي يحيي ويميت } لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه وفي حماره ، وإبراهيم أراه ذلك في غيره ، وقدّمت آية المار على آية إبراهيم ، وإن كان إبراهيم مقدّماً في الزمان على المار ، لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت ، وإن كان تعجب اعتبارٍ فأشبه الإنكار ، وإن لم يكن إنكاراً فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم ، وأما إن كان المار كافراً فظهرت المناسبة أقوى ظهور .

وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء ، ليشاهد عياناً ما كان يعلمه بالقلب ، وأخبر به نمروذ .

والعامل في : إذ ، على ما قالوا محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ، وقيل : العامل مذكور وهو : ألم تر ، المعنى : ألم تر إذ قال ، وهو مفعول : بتر .

والذي يظهر أن العامل في : إذ ، قوله { قال أو لم تؤمن } كما قررنا ذلك في قوله { وإذ قال ربك للملائكة } وفي افتتاح السؤال بقوله : رب ، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ { ربي الذي يحيي ويميت } لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدّلالة عليه .

و : أرني ، سؤال رغبة ، وهو معمول : لقال ، والرؤية هنا بصرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدّت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية .

فقول { كيف تحيي الموتى } في موضع نصب ، وتعلق العرب رأى البصرية من كلامهم ، أما ترى ، أيّ برق هاهنا .

كما علقت : نظر ، البصرية .

وقد تقرر .

وعلم أن الأنبياء ، عليهم السلام ، معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحاً ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ، لأن ذلك سؤال أن يريه عياناً كيفية إحياء الموتى ، لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ، واستدل به على نمروذ في قوله { ربي الذي يحيي ويميت } طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبدّدة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى .

والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء ، وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده .

وأما ما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني : أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب ، فتأويل ليس بشيء قالوا في سبب سؤاله أقوال أحدهما : أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، قاله ابن زيد .

أو : الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ : { أنا أحيي وأميت } قاله ابن إسحاق ، أو : التجربة للخلة من الله إذ بشر بها ، لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره ، قاله ابن جبير .

{ قال أو لم تؤمن } الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والهمزة للتقرير ، كقوله .

ألستم خير من ركب المطايا***

وقوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } المعنى : أنتم خير ، وقد شرحنا لك صدرك ، وكذلك هذا معناه : قد آمنت بالإحياء .

قال ابن عطية .

إيماناً مطلقاً دخل فيه فعل إحياء الموتى ، والواو : واو حال ، دخلت عليها ألف التقرير .

انتهى كلامه .

وكون الواو هنا للحال غير واضح ، لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب ، وإذ ذاك لا بد لها من عامل ، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية ، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال ، ويصير التقدير : أسألت ولم تؤمن ؟ أي : أسألت في هذه الحال ؟ .

والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية ، وأن : الواو ، للعطف ، كما قال : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً } ونحوه .

واعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت .

وقد تقدّم لنا الكلام في هذا ، ولذلك كان الجواب : ببلى ، في قوله { قال : بلى } وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت ، وإن كان بصورة النفي ، تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض ، فتجيبه على صورة النفي ، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات ، وهذا مما قررناه ، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى ، ولذلك علة ذكرت في علم النحو ، وعلى ما قاله ابن عطية من أن : الواو ، للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله : بلى ، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه ، فالجواب إنما يكون في التصديق : بنعم ، وفي غير التصديق : بلا ، أما أن يجاب : ببلى ، فلا يجوز ، وهذا على ما تقرر في علم النحو .

{ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي } .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : أو لم تؤمن ، وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ؟ .

قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين ، و : بلى ، إيجاب لما بعد النفي ، معناه : بلى آمنت ، ولكن ليطمئن قلبي ، ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامّة علم الضرورة علم الاستدال .

وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك ، بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك .

انتهى كلامه .

وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال ، بل منه ما يجوز معه التشكيك .

أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك ، كعلمنا بحدوث العالم ، وبوحدانية الموجد ، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك .

وقال ابن عطية : ليطمئن ، معناه : ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد ، والفكر في صورة الإحياء غير محظور ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، إذ حركه إلى ذلك ، أما أمر الدابة المأكولة ، وأما قول النمروذ { أنا أحيي وأميت } .

انتهى كلامه .

وهو حسن .

واللام في قوله : ليطمئن ، متعلقة بمحذوف بعد لكن ، التقدير : ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي ، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل لكن حتى يصح الاستدراك ، التقدير : قال : بلى أي آمنت ، وما سألت عن غير إيمان ، ولكن سألت ليطمئن قلبي .

وروي عن : ابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة : ليزداد يقيناً ، وعن بعضهم : لأزداد إيماناً مع إيماني .

قال ابن عطية : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلاَّ السكون عن الفكر ، وإلاَّ فاليقين لا يتبعض انتهى .

وقال النصراباذي : حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره ، فكأنه قوّله الشوق : أرني ، كما قال موسى عليه السلام ، ثم تعلل برؤية الصنع له تأدباً .

وحكى القشيري أنه قيل : استجلب خطاباً بهذه المقالة ، حتى قال له الحق : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى آمنت ، ولكن اشتقت إلى قولك : أو لم تؤمن ؟ فإني بقولك : أو لم تؤمن ؟ يطمئن قلبي والمحب أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه .

{ قال : فخذ أربعة من الطير } لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى أجابه تعالى لذلك ، وعلمه كيف يصنع أولاً ، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير ، فيحتمل أن يكون المأمور به معيناً ، وما ذكر تعيينه ، ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة ، أي أربعة كانت من غير تعيين ، إذ لا كبير علم في ذكر التعيين .

وقد اختلفوا فيما أخذ ، فقال ابن عباس : أخذ طاووساً ونسراً وديكاً وغراباً .

وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جريج ، وابن زيد : كذلك ، إلاَّ أنهم جعلوا حمامة بدل النسر .

وقال ابن عباس أيضاً ، فيما روى عبد الرحمن بن هبيرة عنه : أخذ حمامة وكركياً وديكاً وطاووساً .

وقال في رواية الضحاك : أخذ طاووساً وديكاً ودجاجة سندية وأوزة .

وقال في رواية أخرى عن الضحاك : أنه مكان الدجاجة السندية : الرأل ، وهو فرخ النعام .

وقال مجاهد فيما روى ليث : ديك وحمامة وبطة وطاووس .

وقال : ديك وحمامة وبطة وغراب .

وزاد عطاء الخراساني وصفاً في هذه الأربعة فقال : ديك أحمر ، وحمامة بيضاء ، وبطة خضراء ، وغراب أسود .

وقال أبو عبد الله : طاووس وحمامة وديك وهدهد ، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وكان لفظ الموتى جمعاً ، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع ، لا أن يأخذ واحداً .

قيل : وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات ، وكانت من الطير ، قيل لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع ، والخليل عليه السلام كانت همته العلوّ والوصول إلى الملكوت ، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته ، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل : خص الطاووس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع ، والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل ، والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح ، والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب .

وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا .

ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك ؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك .

وأمره بالأخذ للطيور وهو : إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء ، لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية ، وحاسة اللمس .

والطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكراً لقوله تعالى { وخذ أربعة من الطير } وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل : بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : { تسعة رهط } ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث ، وكلا القولين غير صواب .

{ فصرهنّ إليك } أي قطعهنّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن إسحاق .

وقال ابن عباس : هي بالنبطية .

وقال أبو الأسود : هي بالسريانية ، وقال أبو عبيدة : قطعهنّ .

وأنشد للخنساء :

فلو يلاقي الذي لاقيته حضن***

لظلت الشم منه وهي تنصار

أي تتقطع .

وقال قتادة : فصلهنّ ، وعنه : مزقهنّ وفرقهنّ .

وقال عطاء بن أبي رباح : اضممهنّ إليك .

وقال ابن زيد : إجمعهنّ .

وقال ابن عباس أيضاً ، أوثقهنّ .

وقال الضحاك : شققهنّ ، بالنبطية .

وقال الكسائي : أملهنّ .

وإذا كان : فصرهنّ ، بمعنى الإمالة فتتعلق إليك به ، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بخذ .

وقرأ حمزة ، ويزيد ، وخلف ، ورويس ، بكسر الصاد ، وباقي السبعة بالضم .

وهما لغتان ، كما تقدّم : صار يصور ويصير ، بمعنى أمال .

وقرأ ابن عباس وقوم : فصرهنّ ، بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صرّه يصرّه ويصرّه ، إذا جمعه ، نحو : ضره يضره ويضره ، وكونه مضاعفاً متعدياً جاء على يفعل بكسر العين قليل ، وعنه : فصرهنّ ، بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية ، ورويت هذه القراءة عن عكرمة .

وعنه أيضاً : فصرهنّ إليك ، بضم الصاد وتشديد الراء .

وإذا تؤول : فصرهنّ ، بمعنى القطع فلا حذف ، أو بمعنى : الإمالة فالحذف ، وتقديره : وقطعهنّ واجعلهنّ أجزاءً ، وعلى تفسير : فصرهنّ بمعنى أملهنّ وضمهنّ إلى نفسك ، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلالها لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك .

{ ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزأ } العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي : يليك ، أو : بحضرتك ، دون مراعاة عدد .

قاله مجاهد .

وروي عن ابن عباس أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا ، وهو بعيد .

وخصصت الجبال بعدد الأجزاء ، فقيل : أربعة ، قاله قتادة ، والربيع ، وقيل : سبعة ، قاله السدي ، وابن جريج ، قيل : عشرة ، قاله أبو عبد الله الوزير المغربي ، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله : إنه العشر ، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة .

والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور .

وقرأ الجمهور جزءاً باسكان الزاي وبالهمز ، وضم أبو بكر : الزاي ، وقرأ أبو جعفر ، جزّاً ، بحذف الهمزة وتشديد الزاي ، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي ، كما يفعل في الوقف ، كقولك : هذا فرج .

ثم أجري مجرى الوقف .

و : اجعل ، هنا يحتمل أن تكون بمعنى : ألق ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق على كل جبل .

باجعل ، ويحتمل أن يكون بمعنى : صير ، فيتعدى إلى اثنين ، ويكون الثاني على كل جبل ، فيتعلق بمحذوف .

{ ثم ادعهنّ يأتينك سعياً } أمره بدعائهنّ وهنّ أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتيانهنّ إليه ، والسعي هو : الإسراع في الشيء .

وقال الخليل : لا يقال سعى الطائر ، يعنى على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهنّ فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهنّ مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ اتيانهنّ إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهنّ من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهنّ يأتين على خلاف عادتهنّ من الطيران ، فكان كذلك .

وجعل سيرهنّ إليه سعياً ، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ، لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته .

وانتصاب : سعياً ، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعياً .

فعلى هذا يكون مصدراً لفعل محذوف ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهنّ ، أي يكون منهنّ إتيان إليك ، ومنك سعي إليهنّ ، فتلتقي بهنّ .

والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب : سعياً ، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان .

وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه الطيور وذكاها وقطعها قطعاً صغاراً ، وجمع ذلك مع الدم والريش ، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ثم قال : تعالين باذن الله فتطايرت تلك الأجزاء وصار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولاً ، وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعياً حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله .

وزاد النحاس : أن ابراهيم : كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه .

وقال أبو عبد الله : ذبحهن ونحز أجزاءهنّ في المنحاز ، يعني الهاون لأرؤسهن ، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثم دعاهنّ فأتين سعياً يتطاير اللحم إلى اللحم ، والريش إلى الريش ، والجلد إلى الجلد ، بقدرة الله تعالى .

وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها ، وأنكر ذلك أبو مسلم ، وقال : لما طلب إبراهيم احياء الميت من الله ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه ، والمراد : بصرهنّ إليك : أملهنّ ، ومر بهنّ على الإجابة بحيث يصرن إذا دعوتهّن أجبنك ، فإذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهنّ واحداً منها حال حياته ، ثم ادعهنّ يأتينك سعياً .

والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر القول بالتقطيع ، قال : لأن المشهور في اللغة في : فصرهنّ ، أملهنّ ، وأما التقطيع والذبح ، فليس في اللفظ ما يدل عليه ، وبأنه لو كان المعنى : قطعهنّ ، لم يقل : إليك ، وتعليقه : بخذ ، خلاف الظاهر ، وبأن الضمير في : ثم ادعهنّ ، وفي يأتينك عائد اليها لا إلى الأجزاء وعوده على الاجزاء المتفرقة خلاف الظاهر ، ولا دليل فيما ذكر ، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع ، وبأن ما ذكره غير مختص بابراهيم ، فلا مزية له .

وبأنه سأله أن يريه كيف يحيي الموتى ، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم .

واحتج للقول الأول باجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك .

والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر : ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزأ ، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأً جزأً ، لأن الواحد منها سمي جزءاً ، وجعل كل واحد على جبل .

{ واعلم أن الله عزيز حكيم } عزيز لا يمتنع عليه ما يريد ، حكيم فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ، لأن الغلبة تكون عن العزة .

وقيل : عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفاة .

/خ260