لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

قيل كان في طلب في زيادة اليقين ، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلاً من عين اليقين .

وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه : { أو لم تؤمن قال بلى } كنت أومن ولكني اشتقتُ إلى قولك لي : أَوَ لم تؤمن ، فإن بقولك لي : { أو لم تؤمن } تطميناً لقلبي . والمحبُّ أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه .

وقيل : إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فَمُنِعَ منها بالإشارة بقوله { وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وإن موسى - عليه السلام - لما سأل الرؤية جهراً وقال :{ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ }[ الأعراف : 143 ] فَرُدَّ بالجهر صريحاً وقيل له { لَن تَرَانِي } .

وقيل إنما طلب حياة قلبه فأُشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور ، وفي الطيور الأربعة طاووس ، والإشارة إلى ذبحه تعني زينة الدنيا ، وزهرتها ، والغراب لحِرصِه ، والديك لمشيته ، والبط لطلبه لرزقه .

ولما قال إبراهيم عليه السلام { أرِنِى كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى } ؟ قيل له : وأرني كيف تذبح الحي ؟ يعني إسماعيل ، مطالبة بمطالبة . فلمَّا وَفَّى بما طولب به وفَّى الحق سبحانه بحكم ما طلب .

وقيل كان تحت ميعاد من الحق - سبحانه - أن يتخذه خليلاً ، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده ، فجرى ما جرى .

ووصل بين قصة الخليل صلى الله عليه وسلم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عُزَير إذ أراه في نفسه ؛ لأن الخليل يَرْجُح على عزير في السؤال وفي الحال ، فإن إبراهيم - عليه السلام - لم يَرُدَّ عليه في شيء ولكنه تَلَطَّف في السؤال ، وعُزَير كلمه كلام من يُشْبِه قولُه قولَ المسْتَبْعِد ، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمَّ دلالة حيث أظهر إحياءَ الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم - عليه السلام - ربي الذي يحيي ويميت ، فقال : { أَنَا أُحْييِ وَأُمِيتُ } أراد إبراهيم أن يُرِيَه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادَّعى .

وفي هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادةَ اليقين من الله سبحانه وتعالى في حال النظر .

ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام ، فقيل له : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } يعني أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شيء رأيته{ هَذَا رَبِّى }[ الأنعام : 77 ] فلم تَدْرِ كيف بَلَّغْنَاكَ إلى هذه الغاية ، فكذلك يوصلك إلى ما سَمَتْ إليه هِمَّتُك .

والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعني النفس ؛ فَمَنْ لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْيَى قلبُه بالله .

وفيه إشارة أيضاً وهو أنه قال قَطِّعْ بيدك هذه الطيور ، وفَرِّقْ أجزاءها ، ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً ، فما كان مذبوحاً بيد صاحب الخلة ، مقطعاً مُفَرَّقاً بيده - فإذا ناداه استجاب له كل جزء مُفَرَّق . . كذلك الذي فَرَّقه الحق وشتَّته فإذا ناداه استجاب :

ولو أنَّ فوقي تُرْبةً وَدَعَوْتَنِي *** لأجَبْتُ صَوْتَكَ والعِظَامُ رُفَاتُ