قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } : في العامل في " إذ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه قال : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي : قال له ربُّه وقتَ قولِه ذلك . والثاني : أنه " ألم تَرَ " أي : ألم تر إذا قال إبراهيم . والثالث : أنه مضمرٌ تقديرُه : واذكر . ف " إذ " على هذين القولين مفعولٌ به لا ظرفٌ . و " ربِّ " منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذِفَتْ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِفَ حرفُ النداءِ .
وقوله : { أَرِنِي } تقدَّم ما فيه من القراءاتِ والتوجيهِ في قوله : { وَأَرِنَا }
[ البقرة : 128 ] . والرؤيةُ هنا بصريةٌ تتعدَّى لواحدٍ ، ولَمَّا دخلَتْ همزةُ النقلِ أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأول ياء المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و " رأى " البصرية تُعَلَّق كما تعلق " نظر " البصرية ، ومن كلامهم : " أما تَرى أيُّ برقِ ههنا " .
و " كيف " في محلِّ نصبٍ : إمَّا على التشبيه بالظرفِ ، وإمَّا على التشبيهِ بالحال كما تقدَّم في { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . والعاملُ فيها " تُحْيي " وقَدَّره مكي : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ .
قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان ، أظهرُهما : أنها للعطفِ قُدِّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ لأنها لها صدرُ الكلامِ كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرةٍ ، والهمزةُ هنا للتقريرِ ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي قَرَّره كقوله :
ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا *** وأندى العاملينَ بطونَ راحِ
[ و ] : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الانشراح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شَرَحْنا .
والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دَخَلَت عليها ألفُ التقريرِ ، قاله ابن عطية ، وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ كانَتِ الجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانَتْ كذلك استدعَتْ ناصباً وليس ثَمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بدَّ من تقديرِه : والتقدير " أسألْتَ ولم تؤمِنْ " ، فالهمزةُ في الحقيقةِ إنما دَخَلَتْ على العاملِ في الحالِ . وهذا ليس بظاهرِ ، بل الظاهرُ الأولُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قالَ ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى . وقوله " بلى " جوابٌ للجملةِ المنفيَّةِ وإنْ صارَ معناها الإِثباتَ اعتباراً باللفظِ لا بالمعنى ، وهذا من قسمِ ما اعتُبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } اللامُ لامُ كي ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها بإضمار " أَنْ " ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ التوكيدِ ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ بعد " لكنْ " تقديرُه : ولكنْ سألتك كيفية الإِحياء للاطمئنانِ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ آخرَ قبلَ " لكنْ " حتى يَصِحَّ معه الاستدراكُ والتقديرُ : بلى آمنْتُ وما سألتُ غيرَ مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قلبي .
والطُّمأنينة " السكونُ ، وهي مصدرُ " اطمأنَّ " بوزن اقشعرَّ ، وهي على غيرِ قياسِ المصادرِ ، إذ قياسُ " اطمأنَّ " أَنْ يكونَ مصدرُه على الاطمئنان . واختُلِف في " اطمأنَّ " هل هو مقلوبٌ أم لا ؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوبٌ من " طَأْمَنَ " ، فالفاءُ طاءٌ ، والعينُ همزةٌ ، واللامُ ميمٌ ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فوزنُه : افْلَعَلَّ بدليلِ قولهم : طامنتُه فتطامَنَ . ومذهب الجرمي أنه غيرُ مقلوبٍ ، وكأنه يقولُ : إن اطمأنَّ وطَأْمَنَ مادتان مستقلتان ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء ، فإنه قال : " والهمزةُ في " ليطمَئِنَّ " أصلٌ ، ووزنه يَفْعَلِلُّ ، ولذلك جاء { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } [ النساء : 103 ] مثل : اقْشَعْررتم " . انتهى . فوَزنُهُ على الأصلِ دونَ القلبِ ، وهذا غيرُ بعيدٍ ، ألا ترى أنهم في جَبَذَ وجَذَبَ قالوا : ليس أحدُهما مقلوباً من الآخرِ لاستواءِ المادَّتين في الاستعمالِ . ولترجيحِ كلٍّ من المذهبين موضعٌ غيرُ هذا .
قوله : { مِّنَ الطَّيْرِ } في متعلِّقه قولان ، أحدُهما : أنه محذوفٌ لوقوعِ الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديرُه : أربعةً كائنةً من الطيرِ . والثاني : أنه متعلقٌ بخُذْ ، أي : خُذْ من الطير .
و " الطيرُ " اسمُ جمعٍ كرَكْب وسَفْر . وقيل : بل هو جمعُ طائرٍ نحو : تاجر وتَجْر ، وهذا مذهبُ أبي الحسن . وقيل : بل هو مخففٌ من " طَيِّر " بتشديدِ [ الياء ] كقولِهم : " هَيْنَ ومَيْت " في : هَيِّن ومَيَّت . قال أبو البقاء : " هو في الأصلِ مصدرُ طارَ يطير ، ثم سُمِّي به هذا الجنسُ " . فَتَحَصَّلَ فيه أربعةُ أقوالٍ .
وجاء جَرُّه ب " مِنْ " بعد العددِ على أفصحِ الاستعمالِ ، إذ الأفصحُ في اسمِ الجَمْعِ في بابِ العددِ أَنْ يُفْصَل بمِنْ كهذه الآيةِ ، ويجوزُ الإِضافةُ كقولِه تعالى : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل : 48 ] ، وقال :
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ *** لقد جارَ الزمانُ على عيالي
وزعم بعضهم أن إضافته نادرةٌ لا يُقاس عليها ، وبعضُهم أَنَّ اسمَ الجمعِ لما يَعْقِل مؤنثٌ ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ ، لما تقدَّم من الآيةِ الكريمةِ ، واسمُ الجمع لما لا يَعْقِل يُذَكَّر ويؤنَّثُ ، وهنا جاء مذكراً لثبوتِ التاءِ في عددِه .
قوله : { فَصُرْهُنَّ } قرأ حمزة بكسر الصادِ ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ الراء . واختُلِف في ذلك فقيل : القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ ، وذلك أنه يقال : صارَه يَصُوره ويَصِيره ، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين ، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً ، وهذا مذهبُ أبي عليّ . وقال الفراء : " الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين ، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط " . وقال غيرُه : " الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ " . ونُقِل عن الفراء أيضاً أنه قال : " صَارَه " مقلوبُ من قولهم : " صَراه عن كذا " أي : قَطَعه عنه . ويقال : صُرْتُ الشيءَ فانصار أي : قالت الخنساء :
فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ *** لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ
أي : تَنْقَطِعُ . واختُلف في هذه اللفظةِ : هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة ؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية ، وعن أبي الأسود أنها من السريانية ، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ .
و " إليك " إنْ قلنا : إنَّ " صُرْهُنَّ " بمهنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به ، وإنَّ قلنا : إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ ب " خُذْ " .
وقرأ ابن عباس : " فَصُرَّهُنَّ " بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها ، مِنْ : صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه ؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ . ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها ، ومنهم مَنْ يفتَحُها ، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل : " مُدَّهُنَّ " فالضمُّ على الإِتباعِ ، والفتحُ للتخفيفِ ، والكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ .
ولمَّا فَسَّر أبو البقاء " فَصُرْهُنَّ " بمعنى " أَمِلْهُنَّ " قَدَّر محذوفاً بعده تقديرُه : فَأَمِلْهُنَّ إليك ثم قَطِّعْهُنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعْهن قَدَّر محذوفاً يتعلَّق به " إلى " تقديرُه : قَطِّعْهُنَّ بعد أَنْ تُميلَهُنَّ [ إليك ] . ثم قال : " والأجودُ عندي أن يكونَ " إليك " حالاً من المفعولِ المضمرِ تقديرُه : فَقَطِّعْهُنَّ مُقَرَّبةً إليك أو ممالةً أو نحوُ ذلك .
قوله : { ثُمَّ ا } " جَعَلَ " يُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِلقاء فيتعدَّى لواحدٍ وهو " جزءاً " ، فعلى هذا يتعلَّقُ " على كل " و " منهنَّ " باجعَلْ ، وأن يكونَ بمعنى " صَيَّر " فيتعدَّى لاثنين فيكونَ " جُزْءاً " الأولَ ، و " على كل " هو الثاني ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و " منهنَّ " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ على هذا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " جزءاً " لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً . وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ مفعولاً ل " اجْعَلْ " يعني إذا كانَت " اجْعَلْ " بمعنى " صَيِّر " فيكونُ " جزءاً " مفعولاً أول ، و " منهنَّ " مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ . [ ولا بد من حذفِ صفةٍ مخصِّصةٍ بعدَ ] قولِه : " كلِّ جبلٍ " تقديرُه : " على كل جبلٍ بحضرتِك ، أو يَليك " حتى يَصِحَّ المعنى .
وقرأ الجمهورُ : " جُزْءاً " بسكونِ الزاي والهمزِ ، وأبو بكر ضَمَّ الزايَ ، وأبو جعفر شَدَّد الزايَ من غيرِ همزٍ ، ووجهها أنه لَمَّا حَذَفَ الهمزةَ وقف على الزاي ثم ضَعَّفها كما قالوا : " هذا فَرَجّْ " ، ثم أُجري الوصل مُجرى الوقفِ . وقد تقدَّم تقريرُ ذلك عند قولِه : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ] . وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسرُ الجيم . قال أبو البقاء : " ولا أعلم أحداً قرأ بها . والجزءُ : القطعةُ من الشيءِ ، وأصلُ المادة يَدُلُّ على القطعِ والتفريقِ ومنه : التجزئةُ والأجزاءُ/ .
قوله : { يَأْتِينَكَ } جوابُ الأمر ، فهو في محلِّ جزمٍ ، ولكنه بُني لاتِصاله بنونِ الإِناثِ .
قوله : " سَعْياً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من ضميرِ الطير ، أي : يأتينك ساعياتٍ ، أو ذواتِ سَعْي . والثاني : أن يكونَ حالاً من المخاطبِ ، ونُقِل عن الخليلِ ما يُقَوِّي هذا ، فإنه رُوِي عنه : " أن المعنى : يأتينك وأنت تسعى سعياً " فعلى هذا يكونُ " سعياً " منصوباً على المصدرِ ، وذلك الناصبُ لهذا المصدرِ في محلِ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في " يأتينك " . قلت : والذي حَمَلَ الخليلَ - رحمه الله - على هذا التقديرِ انه لا يقال عنده : " سَعَى الطائرُ " فلذلك جَعَل السَّعَيَ من صفاتِ الخليلِ عليه السلام لا من صفةِ الطيورِ . والثالث : أن يكونَ " سَعْياً " منصوباً على نوعِ المصدرِ ، لأنه نوعٌ من الإِتيان ، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ ، فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً . وقال أبو البقاء : " ويجوزُ أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً ، لأنَّ السعي والإِتيان يتقاربان " ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأن المصدرَ المؤكِّد لا يزيدُ معناه على معنى عامِله ، إلاَّ أنه تَساهَلَ في العبارةِ .