فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم 260

( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) إذ ظرف منصوب بفعل محذوف أي اذكر وقت قول إبراهيم ، وإنما كان الأمر بالذكر موجها إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة لأن طلب وقت الشئ يستلزم طلبه بالأولى ، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف .

وقوله " رب " آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء ، قال الأخفش : لم يرد رؤية القلب ، وإنما أراد رؤية العين ، وكذا قال غيره ولا يصح أن يراد به الرؤية القلبية هنا لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة .

( قال أولم تؤمن ) أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته ( قال بلى ) علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك ( ولكن ) سألت ( ليطمئن قلبي ) باجتماع دليل العيان إلى دلائل الايمان .

وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكا في إحياء الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس الخبر كالمعاينة{[262]} .

وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله ، واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، وبما روى عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن عندي آية أرجى منها . أخرجه عنه الحاكم وصححه ، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له .

قال ابن عطية وهو عندي مردود يعني قول هذه الطائفة ثم قال : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى أن لايشك " .

فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم .

وأما قول ابن عباس : هي أرجى آية فمن حيث أن فيها الادلال على الله وسؤال الاحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك .

ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله ( أو لم تؤمن ) أي أن الايمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث ، قال : فالشك يبعد على من ثبت قدمه بالايمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا .

وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شئ موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول نحو قولك : كيف علم زيد ،

وكيف نسج الثوب ، ونحو هذا ، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله .

وقد يكون كيف خبرا عن شئ شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، وهي في هذه الآية استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شئ قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشئ يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشئ في نفسه لا يصح .

مثال ذلك أن يقول مدع أنا أرفع هذا الجبل فيقول المكذب له أرني كيف ترفعه ، فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل ، كأنه يقول افرض أنك ترفعه .

فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له ( أو لم تؤمن قال بلى ) فكمل الأمر وتخلص من كل شئ ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة .

قال القرطبي : هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث .

وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) وقال اللعين ( الا عبادك منهم المخلصين ) واذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم وانما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها . فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين .

فقوله ( رب أرني كيف ) طلب مشاهدة الكيفية ، قال الماوردي : وليست الألف في قوله ( أو لم تؤمن ) ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير ، والواو واو الحال ، وتؤمن معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل احياء الموتى ، والطمأنينة اعتدال وسكون ، وقال ابن جرير : ليوقن قلبي .

( قال فخذ أربعة من الطير ) أي إن أردت ذلك فخذ ، والطير اسم جمع لطائر كركب لراكب وهو مذهب أبي الحسن أو جمع نحو تاجر وتجر أو مصدر قاله أبو البقاء : وخص الطير بذلك قيل لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الانسان شبها في تدوير الرأس والمشي على الرجلين ، وقيل إن الطير همته الطيران في السماء ، والخليل كانت همته العلو .

وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير ، وكل هذه لا تسمن ولا تغني من جوع وليست الاخواطر افهام ، وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله وعللا لما يرد في كلامه .

وهكذا قيل ما وجه تخصيص هذا العدد فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد ، فقيل إن الخليل إنما سأل واحدا على عدد العبودية فأعطي أربعا على قدر الربوبية ، وقيل الطيور الأربعة إشارة الى الأركان الأربعة التي يتركب منها أركان الحيوان ، ونحو ذلك من الهذيان .

قال ابن عباس : والطير الذي أخذ وز ودال وديك وطاوس ، وروي نحوه عن قتادة والحسن وعنه قال الغرنوق والطاوس والديك ، والحمامة ، وقال مجاهد الغراب بدل الغرنوق .

( فصرهن اليك ) أي اضممهن اليك وأملهن واجمعهن يقال رجل أصور اذا كان مائل العنق ويقال صار الشئ يصوره يصيره أماله أو قطعه ، فاللغتان لفظ مشترك بين هذين المعنيين والقراءتان تحتملهما معا ، وقرئ فصرهن بضم الصاد وكسرها وقيل معناه قطعهن ، وبه قال ابن عباس ، وبالنبطية مزقهن وشققهن ، وعنه قال أوثقهن .

( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) فيه الأمر بالتجزئة لأن جعل كل جزء على جبل يستلزم تقدم التجزئة ، قال الزجاج : المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا ، والجزء النصيب ، واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال وليس في ذكر ذلك كثير فائدة .

( ثم ادعهن ) أي قل لهن تعالين بإذن الله تعالى ( يأتينك ) إتيانا سريعا ( سعيا ) أي مشيا سريعا . والمراد بالسعي الإسراع في الطيران أو المشي وقيل السعي هو الحركة الشديدة ، وقيل العدو ، وقيل الطيران ، وفيه أنه لا يقال للطائر إذا طار سعى ، فالحكمة في السعي دون الطيران أن ذلك أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور ، أو أن أرجلها غير سليمة فنفى الله تعالى هذه الشبهة ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) في صنعه .

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : وضعهن على سبعة أجبل وأخذ الرؤوس بيده فجعل ينظر إلى القطرة تلقى القطرة والريشة تلقى الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رؤوس فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها ، وناهيك بالقصة دليلا على فضل الخليل وحسن الأدب في السؤال ، حيث أراه ما سأل في الحال ، وأرى العزير ما أراه بعد إماتته مائة عام{[263]} .


[262]:قال ابن عباس: والمعنى: ارني لأعلم انك تجيبني اذا دعوتك. والله أعلم.
[263]:قال ابن عباس: فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض الى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون اعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الاجزاء وامسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله ، فتطايرت تلك الاجزاء وطار الدم الى الدم والريش الى الريش حتى التأمت مثل ماكانت اولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على ارجلهن . وقد ذكر القرطبي القصص عن المفسرين في ماهية الطيور وكيفية جمعها.