قوله تعالى : { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } فانظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ، { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } أي : ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثها مبدءاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً . قرأ ابن كثير ، وأبو عمر : { النشأة } بفتح الشين ممدودة حيث وقعت ، وقرأ الآخرون بسكون الشين مقصورة نظيرها الرأفة والرآفة . { إن الله على كل شيء قدير* }
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر فى أحوال هذا الكون ، لعل هذا التأمل يديهم إلى الحق فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين للبعث : سيحوا فى الأرض ، وتتبعوا أحوال الخلق ، وتأملوا كيف خلقهم الله - تعالى - ابتداء على أطوار مختلفة ، وطبائع متمايزة . وأحوال شتى . . ثم قل لهم بعد كل ذلك ، الله الذى خلق الخلق ابتداء على تلك الصور المتنوعة المتكاثرة ، هو وحده الذى { يُنشِىءُ النشأة الآخرة } أى : هو وحده الذى ينشئهم ويخلقهم ويعيدهم إلى الحاية مرة أخرى ، بعد أن أوجهم فى المرة الأولى .
فجملة { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } معطوفة على قوله : { سِيرُواْ } وداخلة معها فى حيز القول .
والكيفية في هذه الآية باعتبار بدء الخلق على أطوار شتى ، وصور متعددة . .
وفى الآية السابقة وهى قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } باعتبار بدء الخلق من مادة وغيرها .
والمقصود بالأمر بالسير : التدبر والتأمل والاعتبار ، لأن من شأن التنقل فى جنبات الأرض ، أنه يوقظ الحس ، ويبعث على التفكير ، ويفتح العين والقلب على المشاهدة الجديدة التى لم تألفها العين ، ولم يتأملها القلب قبل ذلك .
وجاء الأمير بالسير عاما ، لأن كل إنسان - فى كل زمان ومكان - يأخذ وجوه اعلبرة والعظة - عن طريق هذا السير ما يتناسب مع عقله ، وثقافته ، وبيئته ، وفكره ، ومستواه المادى ، والاجتماعى ، والحضارى .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل لما قبله . أى : هو - سبحانه - قادر على النشأة الأولى ، وعلى النشأة الآخرة ، لأن قدرته لا يعجزنها شئ ولا يحول دون نفاذها حائل .
وهو - سبحانه - { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ويرحم من يشاء برحمته ، { وَإِلَيْهِ } وحده لا إلى غيره { تُقْلَبُونَ } أى : ترجعون جميعا فيحاسبكم على أعمالكم .
ثم يدعوهم إلى السير في الأرض ، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء ، في الجامد والحي سواء ، ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء :
( قل : سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ؛ ثم الله ينشىء النشأة الآخرة . إن الله على كل شيء قدير ) . .
والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب . وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة . وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه ؛ حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد ، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة ، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه . وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته . وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها ؛ أو كانت لا تفصح له بشى ء ولا تناجيه !
فسبحان منزل هذا القرآن ، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس .
( قل : سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) . .
إن التعبير هنا بلفظ الماضي ( كيف بدأ الخلق )بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق . يثير في النفس خاطرا معينا . . ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى ، وكيفية بدء الخليقة فيها . كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة ؛ كيف نشأت ? وكيف انتشرت ? وكيف ارتقت ? - وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة : ما هي ? ، ومن أين جاءت إلى الأرض ? وكيف وجد فيها أول كائن حي ? - ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة . .
ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر . ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا ؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به - لو كان ذلك هو المقصود - فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم ، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة . ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان . ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة ، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار .
وهناك احتمال أهم يتمشى مع طبيعة هذ القرآن ؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا ، ومستواياتهم جميعا ، وملابسات حياتهم جميعا ، ووسائلهم جميعا . ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته . ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا . ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين .
( إن الله على كل شيء قدير ) . .
يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة ، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن ، بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة !
{ قل سيروا في الأرض } حكاية كلام الله لإبراهيم أو محمد عليهما الصلاة والسلام . { فانظروا كيف بدأ الخلق } على اختلاف الأجناس والأحوال . { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } بعد النشأة الأولى التي هي الإداء ، فإنه والإعادة نشأتان من حيث أن كلا اختراع وإخراج من العدم ، والإفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة ، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر ، وقرئ " النشاءة " كالرآفة . { إن الله على كل شيء قدير } لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.