نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ولما ساق العزيز الجليل هذا الدليل ، عما حاج به قومه الخليل ، انتهزت الفرصة في إرشاد نبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، وذلك أنه لما استدل عليه السلام على الوحدانية المستلزمة للقدرة على المعاد بإبطال إلهية معبوداتهم المستلزم لإبطال كل ما شاكلها ، فحصل الاستعداد للتصريح بأمر المعاد ، فصرح به ، كان ذلك فخراً عظيماً ، ومفصلاً بيناً جسيماً ، لإقامة الحجة على قريش وسائر العرب ، فانتهزت فرصته واقتحمت لجته ، كما هي عادة البلغاء ، ودأب الفصحاء الحكماء ، لأن ذلك كله إنما سيق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعظاً لقومه فقيل : { قل } أي يا محمد لهؤلاء الذين تقيدوا بما تقلدوا من مذاهب آبائهم من غير شبهة على صحته أصلاً : قد ثبت أن هذا كلام الله لما ثبت من عجزكم عن معارضته ، فثبت أن هذا الدليل كلام أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنتم مصرحون بتقليد الآباء غير متحاشين من معرته ولا أب لكم أعظم من إبراهيم عليه الصلاة و السلام ، فإذا قلدتم من لا يفارقه في عبادة ما لا يضر ولا ينفع من غير شبهة أصلاً فقلدوا أباكم الأعظم في عبادة الله وحده لكونه أباكم ، ولما أقام على ذلك من الأدلة التي لا مراء فيها قال : أو { سيروا } إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه السلام ، وتتأملوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع { في الأرض } إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم .

ولما كان السياق لإثبات الإلهية التي تجب المبادرة إلى تفريغ الفكر وتوجيه كل الذهن إلى الاستدلال عليها ، عبر بالفاء المعقبة فقال : { فانظروا } أي نظر اعتبار { كيف بدأ } أي ربكم الذي خلقكم ورزقكم { الخلق } من الحيوانات والنبات من الزروع والأشجار ، وغيرها مما تضمنته الجبال والسهول والأوعار ، وهذا يدل على أن الأول فيما هو أعم من الحيوان ، فتقريرهم على الإعادة فيه حسن .

ولما كان المقصود بالذات بيان الإعادة التي هي من أجل مقاصد السورة ، لإظهار ما مضى أولها من العدل يوم الفصل ، وكانوا بها مكذبين ، بين الاهتمام بأمرها بإبراز الاسم الأعظم بعد تكريره في هذا السياق غير مرة ، وأضمره في سياق البداءة لإقرارهم له بها ، إشارة إلى أنه باطن في هذه الدار ، ظاهر بجميع الصفات في تلك ، فقال : { ثم الله } أي الحائز لجميع صفات الكمال فلا يفوته شيء ، المتردي بالجلال ، فاخشوا سطوته ، واتقوا عقوبته ونقمته { ينشئ النشأة الآخرة } بعد النشأة الأولى . ثم علل ذلك بقوله مؤكداً تنزيلاً لهم منزلة المنكر لإنكارهم البعث : { إن الله } فكرر ذكره تنبيهاً بعد التيمن به على ما ذكره وعلى أنه في كل أفعاله لا سيما هذا مطلق غير مقيد بجهة من الجهات ، ولا مشروط بأمر من الأمور { على كل شيء قدير* } لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة .