اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

قوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق } أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم .

فإن قيل : أبرز{[41208]} اسم «الله » في الآية الأولى عند البدء ، فقال : { كيف يبدىء الله } وأضمره عند الإعادة ، وهاهنا أضمره عند البداء{[41209]} ، وأبرزه عند الإعادة ، فقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } .

فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال : { كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده } ، كقول : ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ، ولا يحتاج إلى إظهار اسم «زيد » اكتفاء بالأول .

وفي الثانية : كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به ، ولم يبرزه ، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً ، فقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ } مع أنه كان يكفي أن يقول : «ثم ينشىء » النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه ، حتى يفهم المسمى{[41210]} به صفات كماله ، ونعوت جلاله ، فيقطع بجواز الإعادة فقال : «ثم الله » مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمال قدرته ، وشمول علمه ، ونفوذ إرادته ، فيعترف بوقوع بدئه ، وجواز إعادته ، فإن قيل : فلم لم يقل : «ثُم اللَّهُ يعيده » بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين .

أحدهما : أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله : «يبدىء الله الخلق » ، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق ، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره .

وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس ، كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ففي الآية الأولى أشار{[41211]} إلى الدليل الحاصل للإنسان من نفسه ، وفي الثانية أشار{[41212]} إلى الدليل الحاصل من الآفاق ، لقوله : { سيروا في الأرض } وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه ، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل : { ثم الله يعيده } فإن قيل : قال في الأولى : { أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق } بلفظ المستقبل وهاهنا قال : { فانظروا كيف بدأ } بلفظ الماضي ، فما الحكمة ؟ .

فالجواب : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم ، وهو يوجب العلم ببدء الخلق ( وأما{[41213]} الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق ) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة{[41214]} ، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً ، وتحصل من هذا القدر بأنه «ينشىء » فإن قيل : قال في هذه الآية : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وقال في الأولى : { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } ( فما فائدته ){[41215]} .

فالجواب : فيه فائدتان :

أحدهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام ، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده ( منه ){[41216]} فتم علمه ( ب ){[41217]} أن الله على كل شيء قدير ، أن كل شيء من الله ، فقال عند تمام الدليل : إن الله على كل شيء قدير ، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة .

الفائدة الثانية : أن العلم الأول أتم ، وإن ( كان ){[41218]} الثاني أعم ، وكون{[41219]} الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً به ، بدليل قولك لمن يحمل مائة مَنٍّ أنه قادر عليه ، ولا يقول : إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشر ( أمنات ){[41220]} يقول ذلك سهل يسير{[41221]} ، فنقول كان التقدير إن لم يحصل{[41222]} لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور ، ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة .

قوله : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة } ، قرأ ابن كثير{[41223]} وأبو عمرو النَّشَاءةَ ، بالمد{[41224]} هنا ، والنجم{[41225]} ، والواقعة{[41226]} والباقون بالقصر ، وهما لغتان كالرأفة{[41227]} والرآفة ، وانتصابهما على المصدر{[41228]} المحذوف الزوائد والأصل : الإنشاءة ، أو على حذف{[41229]} العامل ، أي ينشىء فتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ ، وهي مرسومة{[41230]} بالألف وهو يقوي قراءة{[41231]} المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها{[41232]} نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثُها مبتدئاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً .

وقوله : «ثم يُعِيدُه » ، { ثم الله ينشىء } مستأنفات من إخبار الله تعالى ، فليس الأول داخلاً في حيز{[41233]} الرؤية ، ولا الثاني في حيز{[41234]} النظر ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .


[41208]:في ب: فصل ذكر اسم الله في الآية الأولى ظاهراً عند البدء.
[41209]:في ب: البدء.
[41210]:في ب: المنشئ. وهو تحريف.
[41211]:في ب: إشارة بالاسمية.
[41212]:في ب: كذلك.
[41213]:ما بين المعقوفين ساقط من "ب".
[41214]:انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي 25/47، 48.
[41215]:ما بين المعقوفين ساقط من "أ" وتكملة من "ب".
[41216]:ساقط من "ب".
[41217]:ساقط من "ب".
[41218]:ساقط من "ب".
[41219]:في ب: وإن كان الأعم يسيراً.
[41220]:تصحيح من النسختين يقتضيه السياق من الفخر الرازي.
[41221]:في ب: تمييز. وهو تحريف.
[41222]:في ب: يجعل.
[41223]:تقدم.
[41224]:انظر: السبعة 498، والإتحاف 345 ومعاني القرآن للفراء 2/315، وانظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/165، والدر المصون 4/300، والبحر المحيط 7/146، والنشر 2/342 وتقريبه 158، وانظر حجة ابن خالويه بدون نسبة 279.
[41225]:يقصد قوله تعالى: {وأنَّ عليه النشأة الأخرى}[النجم: 47].
[41226]:يقصد قوله تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكَّرون}[الطور: 62].
[41227]:انظر: الدر للسمين الحلبي 4/300، والتبيان 1030 والكشف 2/178، وقد قال الفراء في معانيه: "القراء مجتمعون على قصر الشين وجزمها، إلا الحسن البصري فإنه مدها في كل القرآن فقال (النشاءة) ومثلها مما تقوله العرب الرأفة، والرآفة" انظر: المعاني 2/315.
[41228]:انظر: البحر المحيط 7/146 والدر المصون 4/200.
[41229]:المرجعان السابقان.
[41230]:في ب: موسومة للألف.
[41231]:في ب: وهو نفيراً.
[41232]:انظر: فتح القدير للشوكاني 4/197.
[41233]:في ب: في جزاء الرواية.
[41234]:في ب: خبر.