قوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق } أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم .
فإن قيل : أبرز{[41208]} اسم «الله » في الآية الأولى عند البدء ، فقال : { كيف يبدىء الله } وأضمره عند الإعادة ، وهاهنا أضمره عند البداء{[41209]} ، وأبرزه عند الإعادة ، فقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } .
فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال : { كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده } ، كقول : ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ، ولا يحتاج إلى إظهار اسم «زيد » اكتفاء بالأول .
وفي الثانية : كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به ، ولم يبرزه ، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً ، فقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ } مع أنه كان يكفي أن يقول : «ثم ينشىء » النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه ، حتى يفهم المسمى{[41210]} به صفات كماله ، ونعوت جلاله ، فيقطع بجواز الإعادة فقال : «ثم الله » مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمال قدرته ، وشمول علمه ، ونفوذ إرادته ، فيعترف بوقوع بدئه ، وجواز إعادته ، فإن قيل : فلم لم يقل : «ثُم اللَّهُ يعيده » بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين .
أحدهما : أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله : «يبدىء الله الخلق » ، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق ، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره .
وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس ، كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ففي الآية الأولى أشار{[41211]} إلى الدليل الحاصل للإنسان من نفسه ، وفي الثانية أشار{[41212]} إلى الدليل الحاصل من الآفاق ، لقوله : { سيروا في الأرض } وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه ، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل : { ثم الله يعيده } فإن قيل : قال في الأولى : { أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق } بلفظ المستقبل وهاهنا قال : { فانظروا كيف بدأ } بلفظ الماضي ، فما الحكمة ؟ .
فالجواب : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم ، وهو يوجب العلم ببدء الخلق ( وأما{[41213]} الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق ) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة{[41214]} ، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً ، وتحصل من هذا القدر بأنه «ينشىء » فإن قيل : قال في هذه الآية : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وقال في الأولى : { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } ( فما فائدته ){[41215]} .
أحدهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام ، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده ( منه ){[41216]} فتم علمه ( ب ){[41217]} أن الله على كل شيء قدير ، أن كل شيء من الله ، فقال عند تمام الدليل : إن الله على كل شيء قدير ، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة .
الفائدة الثانية : أن العلم الأول أتم ، وإن ( كان ){[41218]} الثاني أعم ، وكون{[41219]} الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً به ، بدليل قولك لمن يحمل مائة مَنٍّ أنه قادر عليه ، ولا يقول : إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشر ( أمنات ){[41220]} يقول ذلك سهل يسير{[41221]} ، فنقول كان التقدير إن لم يحصل{[41222]} لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور ، ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة .
قوله : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة } ، قرأ ابن كثير{[41223]} وأبو عمرو النَّشَاءةَ ، بالمد{[41224]} هنا ، والنجم{[41225]} ، والواقعة{[41226]} والباقون بالقصر ، وهما لغتان كالرأفة{[41227]} والرآفة ، وانتصابهما على المصدر{[41228]} المحذوف الزوائد والأصل : الإنشاءة ، أو على حذف{[41229]} العامل ، أي ينشىء فتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ ، وهي مرسومة{[41230]} بالألف وهو يقوي قراءة{[41231]} المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها{[41232]} نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثُها مبتدئاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً .
وقوله : «ثم يُعِيدُه » ، { ثم الله ينشىء } مستأنفات من إخبار الله تعالى ، فليس الأول داخلاً في حيز{[41233]} الرؤية ، ولا الثاني في حيز{[41234]} النظر ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.