السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ولما ساق تعالى هذا الدليل الذي حاجَّ به الخليل قومه قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قل } أي : لهؤلاء الذين تعبدوا بما تقلدوا بمذاهب آبائهم { سيروا } إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتتأمّلوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع { في الأرض } إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم { فانظروا } أي : نظر اعتبار { كيف بدأ } ربكم الذي خلقكم ورزقكم { الخلق } من الحيوان والنبات والزروع والأشجار وغير ذلك مما تضمنته الجبال والسهول { ثم الله } أي : الحائز لجميع صفات الكمال { ينشئ النشأة الآخرة } بعد النشأة الأولى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وألف بعد الشين ممدودة قبل الهمزة ، والباقون بسكون الشين والهمزة بعد الشين ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة ، فإن قيل : أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء فقال كيف يبدأ الله . وأضمره عند الإعادة وههنا أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة فقال ثم الله ينشئ ؟ أجيب : بأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله تعالى بفعل حتى يسند إليه البدء فقال : كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده اكتفاء بالأولى ، وفي الثانية : كان ذكر البدء مسنداً إلى الله تعالى فاكتفى به ولم يبرزه ، وأمّا إظهاره عند الإنشاء ثانياً فقال ثم الله ينشئ مع أنه كان يكفي أن يقول ثم ينشئ النشأة الآخرة فلحكمة بالغة وهي أنه مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه حتى يفهم به صفات كماله ونعوت جلاله فيقطع بجواز الإعادة فقال : ثم الله مظهراً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته فيعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته .

فإن قيل : قال في الأولى { أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق } بلفظ المستقبل وههنا قال : { فانظروا كيف بدأ الخلق } بلفظ الماضي فما الحكمة ؟ أجيب : بأن الدليل الأوّل هو الدليل النفسي الموجب للعلم وهو موجب للعلم ببدء الخلق ، وأمّا الدليل الثاني : فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق فانظروا إلى الأشياء المخلوقة فيحصل لكم العلم بأنّ الله بدأ خلقاً ، ويحصل من هذا القدر العلم بأنه ينشئ كما بدأ ذلك .

فإن قيل قال في هذه الآية : { إنّ الله على كل شيء قدير } وقال في الأولى : { إن ذلك على الله يسير } فما فائدته ؟ أجيب بأنّ فيه فائدتين الأولى أن الدليل الأوّل هو الدليل : النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التامّ ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التامّ لأنه بالنظر إلى نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده منه فيتم علمه بأنّ كل شيء من الله تعالى فقال عند تمام الدليل : { إنّ الله على كل شيء قدير } وقال عند الدليل الواحد إنّ ذلك وهو الإعادة على الله يسير ، الثانية : أنّ العلم الأوّل أتم وإن كان الثاني أعمّ وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل قولك لمن يحمل مائة رطل إنه قادر عليه ، فإذا سألت عن حمله عشرة أرطال تقول ذلك سهل يسير عليه فتقول : كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التامّ بأنّ هذه الأمور عند الله سهلة يسيرة فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كافٍ في إمكان الإعادة .