قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } ، أي : لا تتجاوزوا الحد ، والغلو ، والتقصير ، كل واحد منهما مذموم في الدين ، وقوله : { غير الحق } ، أي : في دينكم المخالف للحق ، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ، ثم غلوا فيع بالإصرار عليه . قوله تعالى : { ولا تتبعوا أهواء قوم } ، والأهواء جمع الهوى ، وهو ما تدعو إليه شهوة النفس .
قوله تعالى : { قد ضلوا من قبل } ، يعني : رؤساء الضلالة في فريقي اليهود والنصارى ، والخطاب للذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم .
قوله تعالى : { وأضلوا كثيراً } ، يعني من اتبعهم على أهوائهم .
قوله تعالى : { وضلوا عن سواء السبيل } ، عن قصد الطريق ، أي : بالإضلال ، فالضلال الأول من الضلالة ، والثاني بإضلال من اتبعهم .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى طريق الحق ، ونهاهم عن الغلو الباطل فقال : { قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } والغلو مصدر غلا في الأمر : إذا تجاوز الحد . وهو نقيض التقصير .
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم عن الغلو حتى في الدين ، فقد روى الإِمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغو في الدين " .
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ؛ إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " .
وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المتنطعون . قالها ثلاثة " والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون للحدود التي جاءت بها تعاليم الإِسلام .
وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى - عليه السلام - أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديداً وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة . وكما غالوا في شأن عيسى عليه السلام - فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة ، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها .
وقوله { غَيْرَ الحق } منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف . أي : لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق : أي : غلوا باطلا .
وقوله : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } معطوف على قوله : { لاَ تَغْلُواْ } .
قال الفخر الرازي : الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة .
قال الشعبي : ما ذكرالله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه . قال : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } وقال : { واتبع هَوَاهُ فتردى } وقال :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } وقال : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } وقال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال : فلان يهوي الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه .
وقيل : سمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . وأنشد في ذم الهوى :
إن الهوى الهوان بعينه . . . فإذا هويت فقد لقيت هواناً
وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هو أي على هواك . فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة .
والمعنى : قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة ، قل لهم يا أهل الكتاب : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق } أي : لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزوا باطلا ، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم ، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برئ منها .
وقل لهم أيضاً : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } أي : ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } أي : قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جرياً وراء شهواتهم وأهوائهم { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } أي أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناساً كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله : { وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } معطوف على قوله { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } .
أي أنهم قد ضلوا من قبل البعثة النبوية الشريفة ، وضلوا من بعدها عن { سَوَآءِ السبيل } أي : عن الطريق الواضح الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو طريق الإِسلام وذلك لأنهم لم يتبعوه مع معرفتهم بصدقه ؛ بل كفروا به حسدا له على ما آتاه الله من فضله .
فأنت ترى أنه - تعالى - قد وصفهم - كما يقول الإِمام الرازي - بثلاث درجات في الضلال : فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقابه من هذه الحالة ويحتمل أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإِضلال أنه إرشاد إلى الحق .
هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية الكريمة أن الغلو في الدين لا يجوز وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وقد سقنا من الآثار ما يشهد بذلك عند تفسيرنا لصدر الآية الكريمة .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان " غلو حق " وهو أن يفحص عن حقائقه ، ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون . وغلوا باطل ، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإِعراض عن الأدلة واتباع الشبه . كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال .
وينهي هذا كله بدعوة جامعة ، يكلف رسول الله [ ص ] أن يوجهها إلى أهل الكتاب : ( قل : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيرا . وضلوا عن سواء السبيل ) .
فمن الغلو في تعظيم عيسى - عليه السلام - جاءت كل الانحرافات . ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم ، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح ، فبلغة بأمانة الرسول ، وهو يقول لهم : ( يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار ) . .
وهذا النداء الجديد هو دعوة الإنقاذ الأخيرة لأهل الكتاب ؛ ليخرجوا بها من خضم الانحرافات والاختلافات والأهواء والشهوات الذي خاض فيه أولئك الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل . .
نقطة اللقاء في اعتبار الإسلام هي العقيدة
ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة ، يحسن الإلمام بها في إجمال : الحقيقة الأولى : هي حقيقة هذا الجهد الكبير ، الذي يبذله المنهج الإسلامي ، لتصحيح التصور الاعتقادي ، وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة ؛ وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب ، وتعريف الناس بحقيقة الألوهية ؛ وإفراد الله - سبحانه - بخصائصها ، وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص . .
وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي ، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم ، يدل على أهمية هذا التصحيح . وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها ، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني ، ولكل ارتباط إنساني كذلك .
والحقيقة الثانية : هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ؛ أو قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : فلم يعد لمسلم - بعد قول الله سبحانه - قول . ولم يعد يحق لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين الله . والله سبحانه يقول : إنهم كفروا بسبب هذه المقولات .
وإذا كان الإسلام - كما قلنا - لايكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام ، فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه الله . بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه الله .
والحقيقية الثالثة : المترتبة على هاتين الحقيقتين ، أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام ، ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد [ ص ] هو وحده " الدين " عند الله . .
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل " الأديان " أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام ! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل ، لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها . فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة . . في اعتبار الإسلام . .
{ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أن تدعوا له الألوهية ، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة . وقيل الخطاب للنصارى خاصة . { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في شريعتهم . { وأضلوا كثيرا } ممن شايعهم على بدعهم وضلالهم . { وضلوا عن سواء السبيل } عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم لما كذبوه وبغوا عليه ، وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع .