معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

قوله تعالى : { وألف بين قلوبهم } ، أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وثارات في الجاهلية ، فصيرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداء .

قوله تعالى : { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال - تعالى - : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .

أى : أن من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك - سبحانه - بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب إليهم الإِيمان وزينه في قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله - تعالى - كالنفس الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً } من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة المتنازعة { ولكن الله } بفضله وقدرته هو وحده الذي { أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فصاروا إخواناً متحابين متصافين { إِنَّهُ } - سبحانه - { عَزِيزٌ } أى : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حَكِيمٌ } في كل أفعاله وأحكامه .

.

وهذه الآية الكريمة يؤديها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب - وخصوصاً الأوس والخزرج - كانوا قبل الإِسلام في حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنزاع والتحارب . . فلما دخلوا في الإِسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ، وتفرقهم إلى اتحاد . . وصاروا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل . .

ولقد أجاد صاحب الكشاف - رحمه الله - في تصويره لهذه المعانى حيث قال : " التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة ، لأن العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة . . لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب ، في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد .

قيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم . ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى . وبينهم الثأر الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس . وعادة كل طائفتين كانتا بهذه الماثبة أن تتجنب هذه ما ىثرته أختها ، وتكرهه وتنفر منه .

فأنساهم الله - تعالى - ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصاراً ، وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته " . هذا ، وفى الصحيحين " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار في شأن غنائم " حنين " قال لهم : يا معشر الأنصار ! ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ؛ وعالة فأغناكم الله بى ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا : الله ورسوله أعلم " .

وروى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لقتطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شئ . ثم يقرأ قوله - تعالى - : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

( وألف بين قلوبهم ، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم ، إنه عزيز حكيم )

ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله ، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ؛ فاستحالت هذه القلوب النافرة ، وهذه الطباع الشموس ، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض ، المحب بعضها لبعض ، المتآلف بعضها مع بعض ، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ؛ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة - : ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .

إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب ، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب ، التي تلين جاسيها ، وترقق حواشيها ، وتندي جفافها ، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد ، ونطق الجارحة ، وخفقة القلب ، ترانيم من التعارف والتعاطف ، والولاء والتناصر ، والسماحة والهوادة ، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ؛ ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !

وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ؛ وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله .

يقول رسول الله [ ص ] : " إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى " قالوا : يا رسول الله تخبرنا من هم . قال : " هم قوم تحابوا بروح الله بينهم ، على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور . لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس " . . [ أخرجه أبو داود ] .

ويقول [ ص ] : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار " . . [ رواه الطبراني ] .

وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب ؛ وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته [ ص ] ؛ كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة ، ولا مجرد أعمال مثالية فردية ؛ إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت ، بإذن الله ، الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } أي : كافيك وحده .

ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ؛ فقال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ آل عمران : 103 ] .

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أَمَنَّ . {[13127]}

ولهذا قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه .

قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن{[13128]} القنديلي الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وذلك موجود في الشعر : إذا مَتَّ ذو القربى إليك برحمه فَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم

ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي

قال : ومن ذلك قول القائل :

ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعا *** وإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب

قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة ؟{[13129]}

وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } الآية ، قال : هم المتحابون في الله ، وفي رواية : نزلت في المتحابين في الله .

رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح{[13130]}

وقال عبد الرازق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }

رواه الحاكم أيضًا .

وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لُبَابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ بيدي فقال : إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ! فقال : لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ! . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني{[13131]}

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان{[13132]} عن إبراهيم الخوزي{[13133]} عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .

وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف ، عن مجاهد .

وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كنا نحدث{[13134]} أن أول ما يرفع من الناس - [ أو قال : عن الناس ]{[13135]} - الألفة .

وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، رحمه الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار{[13136]} {[13137]}


[13127]:صحيح البخاري برقم (4330) وصحيح مسلم برقم (1061) من حديث عبد الله بن يزيد بن عاصم، رضي الله عنه.
[13128]:في جميع النسخ "الحسين" والتصويب من الشعب والميزان.
[13129]:شعب الإيمان للبيهقي برقم (9034).
[13130]:النسائي في السنن الكبرى برقم (11210) والمستدرك (2/329).
[13131]:رواه الطبري في تفسيره (14/46).
[13132]:في هـ: "حدثنا أبو يمان" والتصويب من د، ك، م، والطبري.
[13133]:في د، ك: "الجزري".
[13134]:في د، ك: "نتحدث".
[13135]:زيادة من الطبري.
[13136]:في د، ك، أ: "البحر".
[13137]:المعجم الكبير (6/256) وفيه: "مثل زبد البحر" وقال الهيثمي في المجمع (8/37): "رجاله رجال الصحيح غير سالم بن غيلان وهو ثقة".

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

التأليف بين قلوب المؤمنين مِنّة أخرى على الرسول ، إذ جعَل أتباعه متحابّين وذلك أعون له على سياستهم ، وأرجى لاجتناء النفع بهم ، إذ يكونون على قلب رجل واحد ، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة ، لأنّ ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم .

وهو أيضاً منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن ، التي كانت دأب الناس في الجاهلية ، فكانت سبب التقاتل بين القبائل ، بعضها مع بعض ، وبين بطون القبيلة الواحدة . وأقوالهم في ذلك كثيرة . ومنها قول الفضل بن العبّاس اللهَبي :

مَهْلاً بني عمّنا مهلاً موالينا *** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

اللَّه يعلم أنّا لا نحبكمـــو *** ولا نلومكمو أنْ لا تحبونـا

فلمّا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة ، كما قال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [ آل عمران : 103 ] ، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلاّ بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائِج الأنساب ، ولا بدعوات ذوي الألباب .

ولذلك استأنف بعدَ قوله : { وألف بين قلوبهم } قوله : { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } استئنافا ناشئاً عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف ، فهو بياني ، أي : لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم .

فقوله : { ما في الأرض جميعاً } مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف ( لو ) الدالّ على عدم الوقوع . وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه ، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين ، لما نظّم الله من ألفتهم ، وأماط عنهم من التباغض . ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بُعاث بينهم ، ثم أصبحوا بعد حين إخواناً أنصاراً لله تعالى ، وأزال الله من قلوبهم البغضاءِ بينهم .

و { جميعاً } منصوباً على الحال من { ما في الأرض } وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع ، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } في سورة [ هود : 55 ] .

وموقع الاستدراك في قوله : { ولكن الله ألف بينهم } لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله : { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم } أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر .

والخطاب في { أنفقت } و { ألَّفت } للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله . وإذْ كان هذا التكوين صنعاً عجيباً ذَيّل الله الخبر عنه بقوله : { إنه عزيز حكيم } أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء ، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر ، ويجعله كالأمر المسنون المألوف .

والتأكيد ب« إنَّ » لمجرّد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلاً على بديع صنع الله تعالى .