محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

63 { وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } .

{ وألف بين قلوبهم } أي جمع بين قلوبهم وكلمتهم ، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم ، بعدما كان فيها العصبية والضغينة { لو أنفقت ما في الأرض جميعا } أي من الذهب والفضة { ما ألفت بين قلوبهم } إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر ، لكونه من عالم الغيب ، { ولكن الله ألف بينهم } أي بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه { إنه عزيز } أي غالب في ملكه ، وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حكيم } أي فاقتضت حكمته ذلك لما فيه من تأييد دينه وإعلاء كلمته .

قال الزمخشري رحمه الله تعالى : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الآيات الباهرة . لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء ، وإلقائه بين أعينهم ، إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان . ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من إلفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله ، والبغض في الله . ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد . وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ودق جماجمهم . ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى . وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس . وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ، ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته . انتهى .

/ وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه ، كذا في ( العناية ) .

أقول : لكن شهرة ما كان بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده ، واستحال قبل البعثة نضوب مائه ، يصلح أن يكون قرينة . ونقل علماء السيرة{[4409]} : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج ، ودعاهم إلى الله تعالى . فأجابوه وصدقوه ، قالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزُّ منك " . رواه ابن إسحاق وغيره .

وفي ( الصحيحين ) {[4410]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شان غنائم ( حنين ) قال لهم : " يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن " .

لطيفة :

روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول " إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم يقرأ : { لو أنفقت ما في الأرض . . . } الآية .

وعند البيهقي نحوه . وقال : ذلك موجود في الشعر :

إذ بت ذو قربى إليك بزلة *** فغشك واستغنى فليس بذي رُحْمِ

ولكن ذا القربى الذي إن دعوته *** أجاب ، وأن يرمي العدو الذي ترمى

/ قال : ومن ذلك قول القائل :

ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصولوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطعا *** وإذا المودة أقرب الأسباب

قال البيهقي : لا أدري هذا موصولا بكلام ابن عباس ، أو هو قول من دونه من الرواة .

قال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات ، كلها من خلق الله تعالى . وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام . انتهى .


[4409]:انظر سيرة ابن هشام بالصفحة رقم 286 و 287 (طبعة جوتنجن) والصفحة رقم 70 و 71 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي).
[4410]:أخرجه البخاري في : 64 كتاب المغازي، 56 باب غزة الطائف في شوال سنة ثمان، الحديث رقم 1931 عن عبد الله بن زيد بن عاصم. وأخرجه مسلم في 12 كتاب الزكاة، حديث رقم 139 (طبعتنا).