اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (63)

ثم بيَّن كيف أيد بالمؤمنين ، فقال { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وخصومات ، ومحاربة في الجاهليَّة ، فصيَّرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداءً ، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية ، والمخالصة التَّامة ، ممَّا لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى .

{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب ، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان ، أو مطابقاً للمصلحة والصَّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر .

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد ، والإرادات كلها من خلق الله تعالى ؛ لأن تلك الألفة ، والمودة ، إنَّما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلو كان الإيمانُ فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، لكانت المحبَّة المترتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، وذلك خلاف صريح الآية .

فقال القاضي : " لَوْلاَ ألطافُ الله تعالى ساعةً فساعةً ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التَّأويل ، كما يضافُ علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنَّه لم يحصل ذلك إلاَّ بمعونة الأبِ وتربيته ، فكذا ههنا " .

وأجيب : بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، وحمل الكلام على المجاز ، وأيضاً فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكُفار ، مثل حصولها في حقِّ المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف ؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضاً فالبرهانُ العقلي مقوٍّ لهذا الظَّاهر ؛ أن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرَّغْبَةِ بدلاً عن النُّفرة والعكس .

فرجحان أحدِ الطَّرفين على الآخر لا بدَّ له من مرجِّح ، فإن كان المرجح هو العبدُ عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود .

فعلم أنَّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي ، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي .